حـــــــــــــــــوار مع مبدع..نستضيف
في هذا العدد ناقدا، وجها مشرقا من وجوه النقد الأدبي المغربي، واكب مختلف
تحولات المشهد الأدبي المغربي والعربي منذ جيل السبعينيات، ليحدثنا حديثا
لذيذا وشيقا عن الشعر والنثر والنقد والأدب.. وعن ذاته. من أعماله:
«النزعة الزنجية في الشعر السوداني المعاصر: محمد الفيتوري نموذجا» (2004)
و «أيتام سومر.. في شعرية حسب الشيخ جعفر»، في جزئين، (2009)، كما ساهم في
كتب جماعية حول الشعر المغربي والعربي والعالمي نشرت بالمغرب وخارجه،
وأنجز دراسات حول تجارب شعراء عرب ومغاربة معاصرين: السياب، درويش،
المجاطي.. وإلى جانب اهتمامه بالنقد الشعري يولي عناية خاصة بترجمة الشعر
بحيث ترجم منتخبات شعرية للألماني بول سيلان والفرنسيّين إيف بونفوا وسيرج
بّي والبلجيكي جيرمان دروغنبرودت والإيطالية دوناتّيلا بيزوتي والكرواتية
لانا ديركاك والسلوفاكي جوراس كونياك.. مثلما قدّم و ترجم جزئيا كتابا
جماعيا بعنوان «البحر الأبيض المتوسط.. ضفّة من تلقاء أخرى» يضمّ نصوصا
منتقاة لشعراء وقاصّين ومسرحيّين وموسيقيّين وسينوغرافيّين وغيرهم من
المبدعين المنتمين إلى بعض الدول المتاخمة للبحر الأبيض المتوسط كفرنسا
وإسبانيا وإيطاليا واليونان..؛ مثل أليم سور غارسيا، نينا فينيتسانو، أمينة
سعيد، كارلوس غراسا تورو، سيرج بّي، سلافين ماركو بيروفيتش، وأندري نيتون،
إنه الاستاذ الجامعي والناقد بنعيسى بوحمالة.-
"راهنا، لنقل إنّ الجاذبية هي للنقد الثقافي الشيء الذي يشكّل انزياحا
دالاّ عن سلطة النقد الفرنسي الذي سيمثّل، لمدى طويل، مرجعا مركزيا للنقاد
المغاربة الحداثيّين،"
-
"ليس أمر تفضيل منهج على
آخر بقدر ما هو انخراط تلقائي، تحتمّه اعتبارات تاريخية ومجتمعية وثقافية
معيّنة، في مدار منهج تكون له الكلمة الأولى في غضون فترة ما."
أجرى الحوار: زهير اسليماني - أوّلا، أستاذ لتقريبكم أكثر من القارئ، كيف تختصرون لنا مساركم العلمي والأكاديمي؟*
ببساطة.. فقد تلقّيت تعليمي الابتدائي والإعدادي والثانوي بمدينة مكناس،
التي هي مسقط رأسي، وإثر حصولي على شهادة الباكالوريا كان واردا، بحكم
ميولي ومؤهّلاتي ساعتها، أن أنتسب، خلال المرحلة الجامعية، إمّا إلى شعبة
التاريخ أو الفلسفة أو الأدب، فكان أن حسمت الأمر والتحقت بكلية الآداب –
ظهر المهراز بفاس لأدرس الأدب العربي. كانت الأربع سنوات التي قضيتها فيها
من أروع وأغنى فترات حياتي، بحيث تعمّقت أكثر في الأدب العربي، قديمه
وحديثه، ونهلت من بعض عيون الأدب العالمي، كما أنّي تتلمذت على يد أساتذة
محنّكين كانوا من دعائم المشهد الأكاديمي، كما الثقافي، كمحمد السرغيني
وحسن المنيعي ومحمد برادة وأحمد اليابوري..؛ ناهينا عن أساتذة مشارقة كانت
لهم أفضالهم الثّمينة على جيلي الطّلابي، كأمجد الطرابلسي وصالح الأشتر..؛
ولربّما كانت مصادفة خلاّقة أن أتعرّف أثناءها على بعض من أبرز شعراء جيل
السبعينيات المغربي، والذين ستكون لهم كلمتهم الحاسمة في تطوير قصيدة
الحداثة بالمغرب، كمحمد بنطلحة وعلاّل الحجام ومحمد بنيس وعبد الله راجع
ومحمد السبايلي..؛ وعلى بشير القمري، الذي سيسلك طريق النقد.. شبيه حالتي.
بعد حصولي على الإجازة سأعيّن بمدينة أرفود، بأقاصي منطقة تافيلالت
الجميلة، قبل أن أنتقل إلى الدار البيضاء، فالعودة إلى مكناس عند مطلع
ثمانينيات القرن الماضي. عملت بالتعليم الثانوي وبالمركز التربوي الجهوي ثم
بالمدرسة العليا للأساتذة وبصفة متعاون بجامعة الأخوين وكذا بكلية الآداب
بمكناس.
و لكون الشعر يمثّل اهتمامي التّدريسي والثقافي الأول فقد
اشتغلت، في بحث الإجازة، على ديوان "همس الجفون" للشاعر المهجري ميخائيل
نعيمة، وفي رسالة دبلوم الدراسات العليا على النزعة الزنجية في شعر
السوداني محمد الفيتوري، أمّا في أطروحة الدكتوراه فسأشتغل على تجربة
الشاعر العراقي السّتيني اللاّمع حسب الشيخ جعفر، محاولا الدفاع عمّا
اعتبرته رؤيا أورفية (نسبة إلى البطل الميثولوجي الإغريقي أورفيوس) تتنفّذ
في تجربته الشعرية.
- ارتباطا بالحديث عن
مجال اشتغالكم ودائرة اهتمامكم، كيف ترون الحركة الشعرية المغربية من جهة،
والحركة النقدية التي تواكبها من جهة أخرى؟* لعلّ بعض
المهتمّين بالشعر المغربي، وهو ما سلف أن عبّرت عنه في مداخلات لي وخلال
ندوات عدّة، يعرفون وجهة نظري في الشعريّة المغربية. ذلك أني كنت، ولا
أزال، عند الفكرة التي ترى أنّ ماضينا الشعري المغربي لم يكن من القوّة
والجدارة المعياريّتين اللّتين سيتحلّى بهما المنجز الشعري لا المشرقي ولا
الأندلسي. فطوال عهود السّلالات التي حكمت المغرب وتمفصل، بالتالي، عهود
الأدب المغربي لم يفلح هذا الأخير في بلورة أسماء شعرية من نفس وزن امرئ
القيس وأبي تمام وأبي الطيب المتنبي.. ابن خفاجة وابن زيدون والمعتمد بن
عبّاد.. وإنّما أعطانا ما يمكن تسميّته بفقهاء – شعراء، أو فقهاء، بالأولى،
كان الشعر بمثابة فاعليّة هامشية في دائرة اهتمامهم المعرفي، ولنا في
القاضي عياض، قديما، والمختار السوسي، حديثا، مثال ملموس في هذا الشأن.
لذا، وبصدد الحركة الشعرية المغربية الراهنة، لا يمكن تنحيّة هذه الحيثيّة
تماما ونحن نقارب النّص الشعري المغربي المعاصر، إذ تبقى كلاوعي فاعل،
نسبيّا، في منحى الكتابة والتّخيل. لكن خارج ما يجوز نعته بنوع من الحرج
الفقهي في وجدان الشاعر المغربي، وكذا عامل تأخّرنا التاريخي عن المشرق في
هذا الباب، ولأسباب معروفة، يلوح الحقل الشعري، خصوصا في العقدين الأخيرين،
على قدر من الدّينامية والتراكم.. على درجة من النضج والانفتاح، ممّا
سيثمر، لا محالة، أسماء وخبرات ستمدّ المتخيّل الشعري بنفس سيدفع به قدما
إلى الأمام.
عن العلاقة بين النقد والنّص الشعري فإن نحن راعينا كون
الشعر يعدّ من أصعب الأجناس الأدبية، إطلاقا، وأكثرها تعقيدا ومركّبية
لربّما سنستوعب ندرة النقاد، وذلك في معظم الآداب والثقافات، الذين يهتمون
بدراسته وتحليله، بيد أنّ هذا لم يمنع حيازة النص الشعري المغربي على نصيب
من اهتمام أجيال من النقاد المغاربة، كلّ ومنظوره وأدواته واستهدافاته، ولو
أن الانفجار الهائل الذي تعرفه حركيّة النّشر الشعري الآن تجعل من العسورة
بمكان تتبّع سائر ما يصدر من دواوين تكاد، لوفرتها، تنزل إلى السوق
الثقافية على رأس كل أسبوع تقريبا، أضف إليها ما ينشر في شتى المواقع التي
تعجّ بها الشبكة العنكبوتيّة.
- أصبحنا نشاهد، مؤخّرا، غزارة
في الإنتاجات الأدبية التي تدّعي لنفسها "البّويطيقا" أو "الأدبيّة"، فهل
يتعلق الأمر بظاهرة صحّية أم بتسيّب في الكتابة والنشر؟*
سيّان استأنسنا بكتاب "فن الشعر" للفيلسوف الإغريقي أرسطو أو بكتاب "ثماني
قضايا في الشعريّة" للشّكلاني الروسي رومان ياكبسون سنلفي اقتران ماهية
"البّويطيقا"، والتي يورد ياكبسون أحيانا، كمرادف لها، مصطلح "الأدبيّة"،
بجملة من المشترطات النّصية والتّوليفية والأسلوبية والجمالية..؛ التي
تجعل من النّص الأدبي، والشعري في المقام الأول، نصّا أدبيّا وذلك بالدلالة
المعيارية والمقولاتية للأدبيّة. وبهذا فإنّ مسعى الأدباء الأوكد كان،
وسيظلّ، هو تحقيق نصّ بمواصفات أدبيّة خالصة ما دامت آليّة الإنتاج الأدبي
محكومة، في الجوهر، بإكراه النقص الأدائي في صلته بإشكالية استثمار الأدباء
للإبدالات المتاحة. وإذن فالمسألة ليست مسألة ادّعاء أو مفاخرة بقدر ما هي
مسألة استعدادات ومعارف وخبرات وحساسيّات وجهود عبرها، وانتقالا من نص إلى
آخر، يتطوّر الأداء الكتابي ويرتقي نحو هويّته الصميمة. أمّا إن كان الأمر
يتعلق، تحديدا، بالمنحى التجريبي العارم الذي سلكته، عالميّا وعربيّا ثم
مغربيّا، بعض الأعمال الأدبية، السردية منها بخاصّة، في تعنيف اللغة،
تهجينها، وتحطيم الحدود الفاصلة بين الأجناس التعبيرية واسترفاد جماليات
الفنون الجسدية والبصرية.. وفي كلمة واحدة مراهنتها على شعرنة الخطاب
السردي.. فإن لهذه الوجهة الكتابيّة معالمها المسطّرة وأسماؤها المتعيّنة
ممّا يجعل انضواء أيّ كان إلى أفقها مشروطا بمدى الفاعلية التجريبية،
نجاعتها، ذكائها، قيمتها المضافة إلى الحقلين الكتابي والقرائي كليهما.
-
إذ يعتبر بعض الدّارسين أن العقل النقدي المغربي متقدّم على الإنتاج
الأدبي ينتقدون في الفعل النقدي، في الآونة الأخيرة، إوده نحو المحاباة
ومغازلة بعض الأعمال الأدبية بسبب العلاقات والوشائج، إلى أيّ حدّ يجد مثل
هذا القول صدقيّته في المشهد الأدبي المغربي؟* في الحالة
المغربية نستطيع أن نقول، حقّا، بأنّ العقل النقدي متقدّم على الفعل
الأدبي، وهو ما يتصل بما أومأت إليه قبل قليل بخصوص الشعر المغربي. لنقل إن
تاريخنا الثقافي لهو تاريخ علماء رياضيات، فلكيّين، متكلّمين، مناطقة،
بلاغيّين..؛ أكثر منه تاريخ شعراء أو ناثرين أقحاح. وبالنظر إلى راهن
الثقافة المغربية فقد نلتقط نفس الملمح: سيادة الخطاب الفلسفي، الخطاب
الأنثروبولوجي، الخطاب التاريخي، الخطاب اللساني، الخطاب النقدي..؛ مقابل
تلكّؤ الخطاب الإبداعي، هذا من ناحية، و من ناحية أخرى فمنذ نشأت العلاقة
بين حدّي الإبداع والنقد استحكمت فيها عوامل الموضوعية والنزاهة والصرامة
مثلما شابتها اعتبارات الانحياز أو المعاداة بما أن الأمر موصول، شئنا أو
كرهنا، بصميم الطبيعة البشرية، وكما حدث أن ارتفعت أعمال نقدية رصينة
ونوعيّة بمصنّفات أدبيّة إلى مرقى الذّيوع والمجد نحت أخرى، لكنها قليلة
ولا يعتدّ بها، إلى النّفخ في أعمال باهتة أو الزّراية بأخرى تستأهل
التّنويه والإشادة. هكذا طبيعة الأشياء، وليس المشهد الأدبي المغربي بمنأى
عن هذا الاختلاط، إذ في مقابل نقد موضوعي احتفى بنصوص تستحقّ الاحتفاء هناك
نقد آخر، وينتعش أساسا في حقل الصحافة، إمّا يفتعل افتعالا أهميّة أعمال
وأسماء لاعتبارات قد لا تغرب عن بال المتابع المدقّق، أو ينتقص من أخرى
لحزازات شخصية أو إيديولوجية. لكن، ورغما من كلّ هذا، فإنّ التاريخ لا يسهو
أبدا عن مباشرة شغله التّصنيفي ويوضّب، من جهته، تراتبيّته المنصفة مبقيا
على لآلئ النصوص و طارحا جانبا أكداس الطّفيليات والزّوائد.
-
بمناسبة الحديث عن النقد، والنقد المغربي خصوصا، ما المنهج الذي يفتتن به
النقد المغربي أكثر و يمارس غواية خاصة على النقاد المغاربة إذا كان هناك،
أصلا، من منهج؟* أوّلا، إنّ أيّ اقتراب من النّص الأدبي
إلاّ و يقتضي، بقوّة الأشياء، منهجا ما، يبقى نسبيّا في نتائجه ما في ذلك
شكّ، لكنّ اعتماده وأجرأة تصوّراته واقتراحاته يظلاّن واردين. وبالنسبة
للوضعيّة النقدية في المغرب الظّاهر أنّ الأمر، تماما كما الوضعيّات
النقدية في الآداب الإنسانية برمّتها، ليس أمر تفضيل منهج على آخر بقدر ما
هو انخراط تلقائي، تحتمّه اعتبارات تاريخية ومجتمعية وثقافية معيّنة، في
مدار منهج تكون له الكلمة الأولى في غضون فترة ما. كذا نستطيع الحديث عن
متواليّة نقود سيمرّ بها النقاد المغاربة، و ذلك بحسب أجيالهم، بدءا من
النقد الانطباعي وانتهاء بالنقد الثقافي، مرورا بالنقد التاريخي اللاّنسوني
والنقد الواقعي والنقد البنيوي الشكلاني والنقد البنيوي التّكويني والنقد
السيميائي..؛ و، بالتالي، فإنّ كلّ واحد من هذه النقود إلاّ و سيستجيب، في
ميقات ما، لانتظارات وأسئلة من طبيعة مخصوصة ممارسا، على هذه الشاكلة، ما
أسميتَه إغواء على الفاعلين النقديّين، وبمجرد استنزاف تلك الانتظارات وهذه
الأسئلة يخلي الموقع لآخر بديل. راهنا، لنقل إنّ الجاذبية هي للنقد
الثقافي الشيء الذي يشكّل انزياحا دالاّ عن سلطة النقد الفرنسي الذي
سيمثّل، لمدى طويل، مرجعا مركزيا للنقاد المغاربة الحداثيّين، وانفتاحا على
الفضاء الأنجلو – ساكسوني، الأنجلو – أمريكي تدقيقا، الذي يعتبر المحضن
الأساسي للدراسات الثقافية.
- من الباحثين من يرى أنّ منهج
"البنيوية التّكوينية" يمارس إغراء خاصّا بالنسبة للنقد العربي الحديث نظرا
لطبيعته التّوفيقية بين الشكل والمضمون، فهو بمثابة مسك للعصا من وسطها،
كما يقال، ألا يزال لهذا المنهج ألقه وإشعاعه اللّذان عرف بهما في العقود
المنصرمة؟* بصدد السؤال حول استمرار ألق وإشعاع منهج
"البنيوية التّكوينية" لعلّ الإجابة تكمن، ضمنيّا، في الذي عرضتَه قبل حين.
من المحقّق أنّه ستكون لطروحات كلّ من جورج لوكاش و لوسيان غولدمان وجاك
لينهاردت..؛ مفاعيلها الضاربة في المجال النقدي العربي، والمغربي، لمدّة لا
يستهان بها، هذا ريثما يتآكل الاهتمام بها، نظير ما سيجري في الغرب،
وتهيمن إبدالات نقدية مغايرة. ومن حيث طبيعته التّوفيقية بين الشكل
والمضمون في التّناول التقدي فعلا إنّه سيوفّق، على نحو وظيفي ومتماسك، إلى
تحرير البنيوية الشكلانية من "دوغما" النص المفصول عن برّانيته أو،
بالأصح، من عقيدتها التّحليلية التّقنوقراطية التي تلغي الجانب المجتمعي
والإنساني في النص وتحتفي بالشكل، ولا شيء غير الشكل، ثم إبراء الواقعية
الاشتراكية من هوسها الإيديولوجي بقيم المضمون والوضوح والتّبسيطية
والالتزام. وإذا ما أردنا تشخيص الخطاطة المنهجية التي أرساها البنيويون
التّكوينيون فهي تتحدّد في تبنّي مفهوم البنية، بما هو مفهوم شكلاني، وقطع
المسافة التّوصيفية لهذه البنية بروح شكلانية مختبريّة، لكن باعتبارها
ديناميكيّة ومتحوّلة لا منقطعة أو ثابتة، وحالما ينتهي هذا الشوط، الذي
يتوقّف عنده الشكلانيون، يوالون هم، أي البنيويون التّكوينيون، توصيفهم عبر
إدراج البنية النّصية الموصوفة في بنية، أو بنيات، أرحب، تاريخية ومجتمعية
وثقافية بإمكانها تفسير العمل الأدبي وتسويغ رؤية صاحبه للعالم ما دام هذا
الأخير مجرد صوت ينوب مناب شريحة بشرية واسعة لها تطلّعاتها المادية و
الرمزية المخصوصة.
- فتنتم في مرحلة الشباب
بالقصيدة وشغفتم في مرحلة النضج بالنقد ولاقت أعمالكم النقدية انتشارا
واسعا، فما زاوية النّظر التي تطلّون من خلالها على النصوص، قلب الشاعر
المتذوّق وحسّه المرهف أم فكر الناقد المشبع بالصرامة المنهجية والمتشرّب
للموضوعية العلمية؟* صحيح أن مبتدأ علاقتي بالكتابة كان هو
الشعر أو، بالحريّ، خربشات لا تتعدّى، مثلما هي طبيعة أيّة بداية إبداعية،
نطاق البوح الذاتي وتمرير تمثّلات بريئة للآخرين والأشياء والعالم. ولأنّ
الشعر لا تكفي فيه مجرد الموهبة فقد وجدتني، لاحقا، أكيّف علاقتي مع هذا
الجنس الشّاق والمثير عبر القراءة المدمنة والمتابعة والنقد. فضلا عن هذا
المعطى، ولكون طبيعة مزاجي تبقى أقرب إلى طبيعة أمزجة الشعراء الأصيلين، من
حيث النزوع إلى العزلة والصّمت والتّأمل..؛ فإن ما أنجزته من قراءات
ومقاربات لنصوص أو تجارب شعرية كان لابد وأن تطغى عليها مسحة شعرية،
إبداعية إن شئنا، بمعنى أنّي غالبا ما أتّخذ من هذه النّصوص والتجارب محض
تعلّة، محفّزة ومنتجة بطبيعة الحال، لاستنهاض هواجسي الشخصيّة، مشاغلي
الروحيّة، واحتداماتي الكيانيّة، التي يا ما أتقاطع في جوانب عديدة منها مع
هواجس ومشاغل مبدعيها واحتداماتهم. من هنا تلك النّكهة الإبداعية، كما
قلت، لقراءاتي ومقارباتي التي قد تصل حدّ التّنصل التّام من التّرسيمات
المنهجية ومفرداتها التّحليلية، أي أنيّ أستهدي روح المنهج ومقصديّاته
الكبرى من غير الانغمار الميكانيكي في جزئياته وتفاصيله المملّة، ومن يعود
إلى أعمالي النقدية سيجد خلفيات منهجية بنيوية شكلانية أو بنيوية تكوينية
أو سيميائية أو ثقافية..؛ لكنّي أقوم بتصريفها تناسبا مع معجمي الشخصي
ووفقا لجنوحاتي التعبيرية. وللإشارة فأنا مدين، في تكريس هذه الوجهة في
ممارستي النقدية وإغنائها، للناقدين الكبيرين، الفرنسي رولان بارت والمصري
أنور المعدّاوي (من جيل رجاء النقاش وعبد الغفار مكّاوي وعبد القادر
القطّ..)، ألم يقل بارت، هو من أسّس البنيوية الفرنسية وطبّق التحليل
السيميولوجي والنفسي، قولته الفارقة "إنّ النص أكبر من المنهج" لينتهي إلى
إبدال حتى مسمّى النقد، في حدّ ذاته، بمسمّى المقاربة، أي أنّ منتهى ما
يفعله النقاد ولا القرّاء، من منظوره، هو الاقتراب النّسبي، ليس إلاّ، من
النصوص وليس اعتقالها وتدجينها، فالنصوص في هروب مستديم وما نحسبه نقدا ليس
أكثر من ملاحقة لاهثة، يلزم أن تتسلّح بنفس مكر اللغة الإبداعية وتراقصها،
و هنا مكمن المتعة.
- و أخيرا، ما سبب إقبالكم على الأدب الزنجي، قراءة و نقدا وترجمة، ما الخصوصيّة التي تدمغه وتدفعكم للاحتفاء به؟*
هذا مدرج آخر، جميل و شيّق، في سيرتي الأكاديمية والنقدية والثقافية، وإن
كان لا ينفصل، في الحقيقة، عن اهتمامي المكين بالشعريّة العربية المعاصرة.
بدأ الأمر في بواكير شبابي وأنا أغذّي وجداني الفتيّ، على الغرار من كثير
من أبناء جيلي في أركان الأرض الأربعة، بروائع الموسيقى الزنجيّة.. بأغاني
الجاز والبلوز والسّول والغوسبل الأمريكية، الحزينة والفاتنة. من أفق
الموسيقى سألقاني، اطّرادا، في أفق الأدب الأمريكي قارئا، حينها، لمترجمات
من الرواية والشعر الزنجيّين، أعمال "جيمس بالدوين" و"لانغستون هيوز"
بخاصّة، وعليه، و أنا في رحاب الجامعة أدرس الشعر العربي المعاصر، سيثيرني
المسار الفريد الذي سلكته تجربة الشاعر السوداني (اللّيبي فيما بعد) محمد
الفيتوري في عنايتها بنفس الموضوعات والدلالات والرّمزيات التي أمدّتني
بها، سابقا، موسيقى السّود الأمريكيّين وزوّدني بها أدبهم، والنّتيجة هي
انكبابي، بشكل معمّق، على الأدب والثقافة الزنجيّين وتوسيع مطالعتي لتاريخ
إفريقيا وتقاليدها ومعتقداتها وطقوسها متتبّعا حدود تمظهر الذات الجمعيّة
السوداء، معضلات الهوية الزنجية، قضايا الاستعمار والاسترقاق والميز
العنصري لا في المتن الشعري لمحمد الفيتوري، كنموذج عربي للنزعة الزنجية،
أو في أعمال شعراء سود أفارقة وأمريكيّين ومن جزر الأنتيل، مكتوبة بلغات
أروبية، كالفرنسية والإنجليزية والإسبانية والبرتغالية، من أمثال السينغالي
ليوبولد سيدار سنغور والمارتينيكي إيمي سيزير والغوياني ليون غونتراس
داماس والأمريكي لانغستون هيوز..؛ وأعمال شعراء ينضوون إلى أجيال لاحقة. في
الخلاصة غنمت معارف وازنة بخصوص الوضع الشعري، والثقافي، في السودان،
البلد الموزّع بين انتمائه العربي وانتمائه الإفريقي، أيضا بخصوص المآلات
التي سوف تتّخذها الزنجية، باعتبارها إيديولوجيا حضارية وثقافية، في الوعي
الأسود، في الآداب الإفريقية والأمريكية والأنتيليّة، أيضا في مختلف
التّعبيرات الفنية، من موسيقى وكوريغرافيا ومسرح وسينما وتشكيل..؛ وما نشب
حولها من سجالات واختلافات سوف تعكسها ملتقيات ومهرجانات ومنابر شهيرة،
وحسبنا أن نلمع، عطفا على إشارتنا، قبل قليل، إلى النقد الثقافي والدراسات
الثقافية، إلى كون الزنجية تعدّ أحد الحقول الأساسية، شأنها شأن آداب شبه
القارّة الهندية، في الدراسات الثقافية التي تعرف فورة هائلة في الكثير من
معاهد العالم وجامعاته الكبرى.
على طريقة "بروست"-من قد تودّ أن تكون لو لم تكن أنت؟ أن أكون ما أنا عليه.-ما الذي ينقصك لكي تكون في كامل السعادة؟تفرّغ تامّ للقراءة والبحث والكتابة.. واستكشاف بقاع عديدة في العالم.-
ماذا كنت تحلم أن تكون وأنت صغير؟مخرج سينمائي، وهو الحلم الذي ما انفكّ يلازمني حتى الآن.-لو امتلكت عصا سحرية ما الذي كنت ستعمل على تغييره في العالم؟إعادة تأهيل البشر لكي يتشبّعوا عن الآخر بفضائل التسامح والتعايش واحترام مبدأ الاختلاف.-القيمة التي تحرص عليها أكثر من أيّ شيء آخر؟في الحقيقة قيمتان.. الكرامة والوضوح.-ما عيبك الكبير؟إلحاحي،
أحيانا، على أمور أراها أساسية، وذلك من باب المسؤولية، بينما قد يكفيني،
وهو ما تهجس به عيون أو نبرات من أخاطبهم، الكلام عنها لمرّة واحدة.-الكلمة التي تحبّها أكثر من غيرها؟السّلم.-الكلمة التي تكرهها أكثر من غيرها؟ الحرب.-صديقك؟ الشاعر علاّل الحجام.-ملهمك؟ رمزان اثنان هما: القائد الإسلامي صلاح الدين الأيّوبي والرئيس الأمريكي جون فيتزجيرالد كيندي.-شعارك؟ المشي بمهل لكن بوثوق، كما يقول المثل الفرنسي.-شاعرك؟ أبو الطيّب المتنبي.-كاتبك؟ فيدور دوستويفسكي.-فيلمك؟ فيلمان أمريكيّان في الواقع: "كازابلانكا" و"قصة الحيّ الغربي".-لونك؟ الأزرق.-لو كنت ستموت غدا ما عساك أن تفعله الآن؟فكرة قاسيّة.. لا أتصوّر نفسي قادرا على عقلنتها.. لحظة ميتافيزيقية بامتياز وتتجاوز النّوايا والأفعالمنقول.