ظلت
اشكالية البحث عن هوية المسرح العربي وتأصيل جذوره ومكوناته الاولى من
الاشكاليات التي تثير الجدل وتحتدم فيها التصورات والتساؤلات. ومن البداهة
ان تتناقض الاراء في النظر الى طبيعة هذه الاشكالية فبعض الباحثين ينكر
اساسا وجود هوية للمسرح العربي كون ان هذا الفن من الفنون الغربية الوافدة.
ولم يكن المسرح العربي وفقا لهذا الرأي الا اتباعا واقتباسا وليس في
الامر من ابتداع وابتكار وخصوصية في حين يرى فريق اخر من الباحثين ان العرب
عرفوا هذا الفن وان كان شكل هذه المعرفة يرتبط بالاشكال الطقسية والملامح
الدرامية قبل ان تنضج تلك الاشكال في ادائها المسرحي الحديث وانماطها
المعاصرة.وعلى الرغم من كل الاراء وسبل البحث ومساحة الجدل فان مسألة تأصيل
جذور المسرح تحتاج الى دراسة علمية وموضوعية اكثر مما تحتاج الى الارتجال
والاهواء الشخصية.
وعلى وفق هذا التوصيف تأتي اهمية وضرورة التناول
الاكاديمي المحض واستثمار طرائقه ووسائله في البرهنة والاستقراء والاستنتاج
وصولا الى رؤية حقيقية ومتوازنة.
لقد ارتأى الدكتور الناقد والمترجم
جميل نصيف التكريتي ان يتصدى لهذه الاشكالية والخوض في غمارها باسلوب علمي
رصين ومتابعة وتفحص لكل ما قيل وما طرح بشأن ريادية المسرح العربي وبنيته
التأسيسية من خلال كتابه الموسوم (المسرح العربي/ ريادة وتأسيس) الصادر عن
دار الشؤون الثقافية.
ويمهد الباحث لمادة البحث بجملة من التساؤلات
والاستهلالات عن تاريخية وجذور المسرح العربي بالمقارنة مع اكبر ولادتين
مسرحيتين شهدهما تاريخ المسرح العالمي في مرحلتين متباعدتين نسبيا (الاولى
على ايدي الاغريق اواخر القرن السادس واوائل القرن الخامس قبل الميلاد
والاخرى في اوروبا المسيحية خلال عصر النهضة).
وكلتا الولادتين
المسرحيتين لم تظهر الى الحياة بشكل مكتمل وناضج بل ان اي حقل او فن من
فنون الابداع لابد ان تنطوي تجربته على محاولات بدائية وطقسية حتى تتكامل
فيه عناصر الفن والاداء الراقي المتقدم.
وقد لعبت الموروثات الشعبية
والاجتماعية والطقوس الدينية دورا كبيرا في تشكيل ملامح المسرح ليس في بلاد
الاغريق واوربا فحسب بل في كل تاريخ المسرح العالمي وفي كل مكان من
العالم.
ولم يكن المسرح العربي بعيدا عن تواتر الطبيعة التكوينية
والمصادر التي تغذي تاريخه ومثلما لم يولد المسرح الاغريقي والاوروبي
بصورته الناضجة وبشكله الراقي فان المسرح العربي لم يشذ عن هذه القاعدة ولا
ينطبق هذا الفهم على المسرح دون فنون واجناس الابداع الاخرى كالرواية
والقصة والشعر والفن التشكيلي.
ان النزوع الدرامي قديم في تاريخ الابداع
والتراث العربي ومن السهل ان تتلمس ملامح الدراما في المعلقات السبع او
العشر كما عدها بعض النقاد القدامى بل ان سوق عكاظ واحتشاد الشعراء والقاء
قصائدهم يعد مظهرا من المظاهر الاولى لتكوين الحس الدرامي القائم في جوهره
على الصراع والجدل.
ان ايجاد هوية وخصوصية لظاهرة المسرح العربي وتوكيد
مكوناته وجذوره يرتبط ويؤثر في تجربته وريادتها ونضجها قديما وحديثا بما
يفسح افاق الابداع نحو مستقبل لمسرح عربي متقدم في صياغاته الجمالية
والفكرية.
ان جهد الباحث ورصانة اسلوبه ودقته في تتبع مسارات المسرح
والتركيز عن جهود الرواد يعد جوهر الكتاب الذي نعتقد بانه اضاف الى مجمل
البحث والدراسة عن هذه الاشكالية جهدا علميا وحسم الكثير مما يتردد من اراء
ينقصها البرهان والتحقق العلمي.
وبغية ان يكتسب البحث اشتراطاته
الاكاديمية قسم الناقد الدكتور جميل نصيف كتابه على اربعة فصول تضمن كل فصل
اكثر من مبحث فتحدث في الفصل الاول عن (المفهوم العلمي لفن المسرح
ووظيفته) وجاء الفصل الثاني موسوما (الباحثون العرب وتراث مارون النقاش)
وتناول فيه اعمال ابرز رواد المسرح العربي وتعمق في تحليل اعماله (البخيل،
ابو الحسن المغفل، الحسود السليط). وغيرها من الاعمال. وتناول في الفصل
الثالث اراء الباحثين العرب بشأن تراث احمد ابو خليل القباني مع دراسة
القيم الدرامية لمسرح القباني وكنا نتمنى وعلى وفق الاستخدام العلمي لمفردة
(التراث) ان تستبدل بها مفردة جهود او ريادية القباني.
اما الفصل
الرابع فقد عني بدراسة (التراث المسرحي ليعقوب ضوع) واستقصاء القيم الفكرية
والاجتماعية لمسرحه ودراسة الخصائص الفنية التي انطوت عليها تجاربه ولعل
من المهم التنويه بان الكتاب عرض اراء الكثير من الباحثين والنقاد عرضا
امينا ومن ثم مناقشتها بالتأييد او التنفيذ لكي يتيح للقارئ الاطلاع على
مجمل المسائل الخلافية والتصورات والاراء التي قيلت عن موضوع البحث.
ومن
المؤكد ان كتابا بهذه الرصانة ودقة البحث يسد فراغا في المكتبة المسرحية
اولا وفي مجمل الحركة الثقافية وترسيخ تقاليد البحث والحوار، والبحث في
اشكاليات فكرية وجمالية نحن بأمس الحاجة للخوض في معتركها وصولا الى
استخلاصات علمية وموضوعية متوازنة.
منقول