مــنــتـديات البــــــاحــث الأفـضــــــل
مرحبا بك زائرنا الكريم في منتدياتك "الباحث الأفضل". ندعـــــوك للتسجيل والانضمام لأسرة "الباحث الأفضل" والمساهمة بآرائك. فحضورك دعم لنا وقيمة مضافة لمنتدياتنا.
مــنــتـديات البــــــاحــث الأفـضــــــل
مرحبا بك زائرنا الكريم في منتدياتك "الباحث الأفضل". ندعـــــوك للتسجيل والانضمام لأسرة "الباحث الأفضل" والمساهمة بآرائك. فحضورك دعم لنا وقيمة مضافة لمنتدياتنا.
مــنــتـديات البــــــاحــث الأفـضــــــل
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةالرئيسية  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  
إعلاناتكم هنا
حي بن يقظان Fb110
المواضيع الأخيرة
» ديوان امرئ القيس
حي بن يقظان Emptyالثلاثاء أبريل 28, 2015 2:49 pm من طرف عبدالجبار

» alwasila lkobra
حي بن يقظان Emptyالثلاثاء يناير 20, 2015 2:52 pm من طرف زائر

» إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ
حي بن يقظان Emptyالجمعة فبراير 28, 2014 10:07 am من طرف ابراهيم عثمان

» نــــورســــيـــدنا رســــول الله
حي بن يقظان Emptyالأربعاء فبراير 26, 2014 9:29 pm من طرف ابراهيم عثمان

» فضل الصلاة على حضرة سيدنا رسول الله
حي بن يقظان Emptyالثلاثاء فبراير 25, 2014 9:29 pm من طرف ابراهيم عثمان

» بشائر المحبين
حي بن يقظان Emptyالأحد فبراير 23, 2014 9:15 pm من طرف ابراهيم عثمان

» الاعجاز العلمى لسماع القرأن الكريم
حي بن يقظان Emptyالخميس فبراير 20, 2014 10:38 am من طرف ابراهيم عثمان

» الصدقة
حي بن يقظان Emptyالسبت فبراير 15, 2014 8:50 pm من طرف ابراهيم عثمان

» الصيام المسنون
حي بن يقظان Emptyالأربعاء فبراير 12, 2014 10:51 pm من طرف ابراهيم عثمان

» لغة وفصاحته صلى الله علسة وسلم
حي بن يقظان Emptyالجمعة فبراير 07, 2014 9:45 pm من طرف ابراهيم عثمان

» نصائح لاجتياز الامتحان
حي بن يقظان Emptyالأحد سبتمبر 22, 2013 3:57 pm من طرف مصطفى نبوي

» المراجعة الفعالة
حي بن يقظان Emptyالأحد سبتمبر 22, 2013 3:55 pm من طرف مصطفى نبوي

» الأيام الوطنية والعربية والدولية
حي بن يقظان Emptyالأحد سبتمبر 22, 2013 3:45 pm من طرف مصطفى نبوي

» النظام الداخلي للمؤسسة
حي بن يقظان Emptyالأحد سبتمبر 22, 2013 3:43 pm من طرف مصطفى نبوي

» ورقة تعريفية ببعض القواعد الإملائية
حي بن يقظان Emptyالأحد سبتمبر 22, 2013 3:41 pm من طرف مصطفى نبوي

» ميثاق الفصل الدراسي
حي بن يقظان Emptyالأحد سبتمبر 22, 2013 3:39 pm من طرف مصطفى نبوي

» الأولى باك علوم دروس+تمارين(تتمة)+ملخصات ذ.محمد شركي:مفتش اللغة العربية+الإمتحان الجهوي مع التصحيح (منقو)
حي بن يقظان Emptyالسبت مايو 18, 2013 4:08 pm من طرف المدير العام

» تواريخ مباريات ولوج المراكز الجهوية للتربية و التكوين للموسم 2013/2014
حي بن يقظان Emptyالسبت مايو 18, 2013 3:46 pm من طرف المدير العام

» مجموعة قصائد رائعة لمحمود درويش
حي بن يقظان Emptyالإثنين مايو 13, 2013 6:34 am من طرف المدير العام

» عاجل :النقابات التعليمية بزاكورة تدين الاقتطاعات من اجور الشغيلة و تدعو الشغيلة التعليمية الى سحب ارصدتها من البنوك جماعيا و تدعو الفروع النقابية الى الوحدة و التنسيق و تقرر خوض اضراب لمدة 48 ساعة ايام 15 و 16 ماي 2013
حي بن يقظان Emptyالأحد مايو 12, 2013 10:17 am من طرف المدير العام



 

 حي بن يقظان

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
المدير العام
المــدير العام منشئ المنتدى
المــدير العام         منشئ المنتدى
المدير العام


عدد المساهمات : 1009
نقاط : 2828
تاريخ التسجيل : 29/11/2011
العمر : 12
الموقع : https://albahito.alafdal.net

حي بن يقظان Empty
مُساهمةموضوع: حي بن يقظان   حي بن يقظان Emptyالخميس مارس 29, 2012 1:08 pm

ابن الطفيل - حي بن يقظان)
اذهب إلى: تصفح, البحث

ذكر سلفنا الصالح - رضي الله عنهم - أن جزيرة من جزائر الهند التي تحت خط الاستواء، وهي الجزيرة التي يتولد بها الإنسان من غير أم ولا أب، وبها شجر يثمر نساء، وهي التي ذكر المسعودي أنها جزيرة الوقواق لان تلك الجزيرة اعدل بقاع الأرض هواء؛ أتممها لشروق النور الأعلى عليها استعدادً، وان كان ذلك خلاف ما يراه جمهور الفلاسفة وكبار الأطباء، فانهم يرون إن اعدل ما في المعمورة الإقليم الرابع، فان كانوا قالوا ذلك لأنه صح عندهم انه ليس على خط الاستواء عمارة لمانع من الموانع الأرضية، فلقولهم: أن الإقليم الرابع اعدل بقاع الأرض وجه، وان كانوا إنما أرادوا بذلك إن ما على خط الاستواء شديد الحرارة، كالذي يصرح به أكثرهم فهو خطأ يقوم البرهان على خلافه.

وذلك أنه قد تبرهن في العلوم الطبيعية أنه لا سبب لتكون الحرارة إلا الحركة أو ملاقاة الأجسام الحارة والإضاءة؛ وتبين فيها أيضاً إن الشمس بذاتها غير حارة ولا متكيفة بشيء من هذه الكيفيات المزاجية؛ وقد تبين فيها أيضاً إن الأجسام التي تقبل الإضاءة أتم القبول، هي الأجسام الصقيلة غير الشفافة، ويليها في قبول ذلك الأجسام الكثيفة غير الصقيلة، فأما الأجسام الشفافة التي لاشيء فيها من الكثافة فلا تقبل الضوء بوجه.

وهذا وحده مما برهنه الشيخ أبو علي خاصة، ولم يذكره من تقدمه، فإذا صحت هذه المقدمات، فاللازم عنها أن الشمس لا تسخن الأرض كما تسخن الأجسام الحارة أجسام أخر تماسها، لان الشمس في ذاتها غير حارة ولا الأرض أيضاً تسخن بالحركة لأنها ساكنة وعلى حالة واحدة في شروق الشمس عليها وفي وقت مغيبها عنها وأحوالها في التسخين والتبريد، ظاهرة الاختلاف للحس في هذين الوقتين.

ولا الشمس أيضاً تسخن الهواء أولاً ثم تسخن بعد ذلك الأرض بتوسط سخونة الهواء، وكيف يكون ذلك ونحن نجد أن ما قرب من الهواء من الأرض في وقت الحر، أسخن كثيراً من الهواء الذي يبعد منه علواً؟ فبقي أن تسخين الشمس للأرض إنما هو على سبيل الإضاءة لا غير، فان الحرارة تتبع الضوء أبداً: حتى إن الضوء إذا افرط في المرأة المقعرة، أشعل ما حاذاها.

وقد ثبت في علوم التعاليم بالبراهين القطعية، أن الشمس كروية الشكل، وأن الأرض كذلك، وأن الشمس أعظم من الأرض كثيراً، وأن الذي يستضيء من الشمس أبداً هو أعظم من نصفها، وأن هذا النصف المضيء من الأرض في كل وقت أشد ما يكون الضوء في وسطه، لأنه أبعد المواضع من المظلمة، ولأنه يقابل من الشمس أجزاءاً أكثر، وما قرب من المحيط كان أقل ضوءاً حتى ينتهي إلى الظلمة عند محيط الدائرة الذي ما أضاء موقعه من الأرض قط، وإنما يكون الموضع وسط دائرة الضياء إذا كانت الشمس على سمت رؤوس الساكنين فيه، وحينئذ تكون الحرارة في ذلك الموضع أشد ما يكون فان كان الموضع مما تبعد الشمس عن مسامتة رؤوس أهله، كان شديد البرودة جداً، وان كان مما تدوم فيه المسامتة كان شديد الحرارة، وقد ثبت في علم الهيئة أن بقاع الأرض التي على خط الاستواء لا تسامت الشمس رؤوس أهلها سوى مرتين في العام: عند حلولها برأس الحمل؛ وعند حلولها برأس الميزان.

وهي في سائر العام ستة أشهر جنوباً منهم، وستة أشهر شمالاً منهم: فليس عندهم حر مفرط، ولا برد مفرط. وأحوالهم بسبب ذلك متشابهة.

وهذا القول يحتاج إلى بيان أكثر من هذا، لا يليق بما نحن بسبيله؛ وإنما نبهناك عليه، لأنه من الأمور التي تشهد بصحة ما ذكر من تجويز تولد الإنسان بتلك البقعة من غير أم ولا أب.

فمنهم من بت الحكم وجزم القضية بأن حي بن يقظان من جملة من تكون في تلك البقعة من غير أم ولا أب، ومنهم من أنكر ذلك وروى من أمره خبراً نقصه عليك، فقال: انه كان بازاء تلك الجزيرة، جزيرة عظيمة متسعة الأكتاف، كثيرة الفوائد، عامرة بالناس، يملكها رجل منهم شديد الأنفة والغيرة، وكانت له أخت ذات جمال وحسن باهر فعضلها ومنعها الأزواج إذا لم يجد لها كفواً. وكان له قريب يسمى يقظان فتزوجها سراً على وجه جائز في مذهبهم المشهور في زمنهم.

ثم إنها حملت منه ووضعت طفلاً. فلما خافت أن يفتضح أمرها وينكشف سرها، وضعته في تابوت أحكمت زمه بعد أن أروته من الرضاع؛ وخرجت به في أول الليل في جملة من خدمها وثقاتها إلى ساحل البحر، وقلبها يحترق صبابةً به، وخوفاً عليه، ثم إنها ودعته وقالت: "اللهم انك خلقت هذا الطفل ولم يكن شيئاً مذكوراً، ورزقته في ظلمات الأحشاء، وتكفلت به حتى تم واستوى. وأنا قد سلمته إلى لطفك، ورجوت له فضلك، خوفاً من هذا الملك الغشوم الجبار العنيد.

فكن له، ولا تسلمه، يا أرحم الراحمين" ثم قذفت به في اليم. فصادف ذلك جري الماء بقوة المد، فاحتمله من ليلته إلى ساحل الجزيرة الأخرى المتقدم ذكرها. وكان المد يصل في ذلك الوقت إلى موضع لا يصل إليه بعد علم. فأدخله الماء بقوته إلى أجمة ملتفة الشجر عذبة التربة، مستورة عن الرياح والمطر، محجوبة عن الشمس تزاور عنها إذا طلعت، وتميل إذا غربت. ثم أخذ الماء في الجزر.

وبقي التابوت في ذلك الموضع، وعلت الرمال بهبوب الرياح، وتراكمت بعد ذلك حتى سدت مدخل الماء إلى تلك الأجمة. فكان المد لا ينتهي إليها، وكانت مسامير التابوت قد فلقت، وألواحه قد اضطربت عند رمي الماء في تلك الأجمة. فلما أشتد الجوع بذلك الطفل، بكى واستغاث وعالج الحركة، فوقع صوته في أذن ظبية فقدت طلاها، خرج من كناسه فحمله العقاب، فلما سمعت الصوت ظنته ولدها.

فتتبعت الصوت وهي تتخيل طلاها حتى وصلت إلى التابوت، ففحصت عنه بأظلافها وهو ينوء ويئن من داخله، حتى طار عن التابوت لوح من أعلاه. فحنت الظبية وحنت عليه ورئفت به، وألقمه حلمتها وأروته لبناً سائغاً. ومازالت تتعهده وتربيه وتدفع عنه الأذى. هذا ما كان من ابتداء أمره عند من ينكره التولد. ونحن نصف هنا كيف تربى وكيف أنتقل في أحواله حتى يبلغ المبلغ العظيم. وأما الذين زعموا أنه تولد من الأرض فانهم قالوا إن بطناً من أرض تلك الجزيرة تخمرت فيه طينه على مر السنين والأعوام، حتى امتزج فيها الحار بالبارد، والرطب باليابس، امتزاج تكافؤ وتعادل في القوى. وكانت هذه الطينة المتخمرة كبيرة جداً وكان بعضها يفضل بعضاً في اعتدال المزاج والتهيؤ لتكون الأمشاج.

وكان الوسط منها أعدل ما فيها وأتمه مشابهة بمزاج الإنسان: فتمخضت تلك الطينة، وحدث فيها شبه نفاخات الغليان لشدة لزوجتها: وحدث في الوسط منها لزوجة ونفاخة صغيرة جداً، منقسمة بقسمين، بينها حجاب رقيق، ممتلئة بجسم لطيف هوائي في غاية من الاعتدال اللائق به، فتعلق به عند ذلك الروح الذي هو من أمر الله تعالى وتشبث به تشبثاً يعسر انفصاله عنه عند الحس وعند العقل؛ إذ قد تبين أن هذا الروح دائم الفيضان من عند الله عز وجل، وأنه بمنزلة نور الشمس الذي هو دائم الفيضان على العالم.

فمن الأجسام ما لا يستضيء به، وهو الهواء الشفاف جداً؛ ومنها ما يستضيء به بعض الاستضاءة، وهي الأجسام الكثيفة غير الصقيلة وهذه تختلف في قبول الضياء، وتختلف بحسب ذلك ألوانها، ومنها ما يستضيء به غاية الاستضاءة وهي الأجسام الصقيلة كالمرأة ونحوها.

فإذا كانت هذه المرأة مقعرة على شكل مخصوص، حدث فيها النار لإفراط الضياء. الذي هو الروح، الذي هو من أمر الله تعالى، فياض أبداً على جميع الموجودات؛ فمنها ما لا يظهر أثره فيه اعدم الأستعداد، وهي الجمادات التي لا حياة لها، وهذه بمنزلة الهواء في المثال المتقدم، ومنها ما يظهر أثره فيه، وهي أنواع النبات بحسب استعداداتها وهذه بمنزلة الأجسام الكثيفة في المثال المتقدم؛ ومنها ما يظهر أثره فيه ظهوراً كثيراً، وهي الأجسام الصقيلة في المثال المتقدم.

ومن هذه الأجسام الصقيلة ما يزيد على شدة قبوله لضياء الشمس أنه يحكي صورة الشمس، ومثالها. وكذلك أيضاً من الحيوان ما يزيد على شدة قبوله للروح أنه يحكي الروح ويتصور بصورته وهو الإنسان خاصة.

واليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله خلق أدم على صورته". فان قويت في هذه الصورة حتى تتلاشى جميع الصور في حقها، وتبقى هي وحدها، وتحرق سبحات نورها كل ما أدركته، كانت حينئذ بمنزلة المرأة المنعكسة على نفسها المحرقة لسوها وهذا لا يكون إلا للأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين. وهذا كله مبين في مواضعه اللائقة به، فليرجع إلى تمام ما حكوه من وصف ذلك التخلق.

قالوا: فلما تعلق هذا الروح بتلك القرارة، خضعت له جميع القوى وسجدت له وسخرت بأمر الله تعالى في كمالها، فتكون بازاء تلك القرارة نفاخة أخرى منقسمة إلى ثلاث قرارت بينهما حجب لطيفة، ومسالك نافذة، وامتلأت بمثل ذلك الهوائي الذي امتلأت منه القرارة الأولى؛ إلا أنه ألطف منه. وفي هذه البطون الثلاثة المنقسمة من واحد، طائفة من تلك القوى التي خضعت له وتوكلت بحراستها والقيام عليها، وإنهاء ما يطرأ فيها من دقيق الأشياء وجليلها إلى الروح الأول المتعلق بالقرارة الأولى.

وتكون بازاء هذه القرارة من الجهة المقابلة للقراءة الثانية، نفاخة ثالثة مملوءة جسماً هوائياً، إلا أنه أغلظ من الأولين وسكن في هذه القرارة فريق من تلك القوى الخاضعة، وتوكلت بحفظها و القيام عليها؛ فكانت هذه القرارة الأولى والثانية والثالثة، أول ما تخلق من تلك الطينة المتحمرة على الترتيب الذي ذكرناه. واحتاج بعضها إلى بعض: فالأولى منها حاجتها إلى الآخرين، حاجة استخدام وتسخير.

والأخريان حاجتهما إلى الأولى حاجة المرؤوس إلى الرئيس، والمدبر إلى المدبر؛ وكلاهما لما يتخلق بعدهما من الأعضاء رئيس لا مرؤوس. وأحدهما، وهو الثاني، أتمم رئاسة من الثالث فالأول منهما لما تعلق به الروح، واشتعلت حرارته تشكل بشكل النار لصنوبري وتشكل أيضاً الجسم الغليظ المحدق به على شكله، وتكون لحماً صلباً، وصار عليه غلاف صفيق يحفظه وسمي العضو كله قلباً واحتاج لما يتبع الحرارة من التحليل وافناء الرطوبات إلى شيء يمده ويغذوه، ويخلف ما تحلل منه على الدوام، وإلا لم يطل بقاؤه، واحتاج أيضاً إلى تحسس بما يلائمه فيجذبه، وبما يخالفه فيدفعه. فتكفل له العضو الواحد بما فيه من القوى التي أصلها منه بحاجته الواحدة، وتكفل له العضو الآخر بحاجته الأخرى.

وكان المتكفل بالحس هو الدماغو المتكفل بالغذاء هو الكبد؛ واحتاج كل واحد من هذين إليه في أن يمدها بحرارته، وبالقوى المخصوصة بهما التي أصلها منه ، فانتسجت بينهما لذلك كله مسالك وطرق: بعضها أوسع من بعض بحسب ما تدعواليه الضرورة، فكانت الشرايين و العروق. وصفه الطبيعيون في خلقة الجنين في الرحم، لم يغادروا من ذلك شيئاً، إلى أن كمل خلقه، وتمت أعضاؤه، وحصل في حد خروج الجنين من البطن، واستعانوا في وصف كمال ذلك بتلك الطينة الكبيرة المتخمرة، وأنها كانت قد تهيأت لان يتخلق منها كل ما يحتاج إليه في خلق الإنسان من الأغشية المجللة لجملة بدنه وغيرها فلما كمل انشقت عنه تلك الأغشية، بشبه المخاض، وتصدع باقي الطينة إذ كان قد لحقه الجفاف.

ثم استغاث ذلك الطفل عند فناء مادة غذائه واشتداد جوعه، فلبته ظبية فقدت طلاها. ثم استوى عبد ما وصفه هؤلاء بعد هذا الموضع، وما وصفه الطائفة الأولى في معنى التربية؛ فقالوا جميعاً: إن الظبية التي تكفلت به وافقت خصباً ومرعى أثيثاً، فكثر لحمها وكثر لبنها، حتى قام بغذاء ذلك الطفل أحسن قيام. وكانت معه لا تبعد عنه إلا لضرورة الرعي. وألف الطفل تلك الظبية حتى كان بحيث إذا هي أبطأت عنه اشتد بكاؤه فطارت إليه.

ولم يكن بتلك الجزيرة شيء من السباع العادية، فتربى الطفل ونما واغتذى بلبن تلك الظبية إلى أن تم له حولان، وتدرج في المشي وأثغر فكان يتبع تلك الظبية، وكانت هي ترفق به و ترحمه وتحمله إلى مواضع فيها شجر مثمر فكانت تطعمه ما تساقط من ثمراتها الحلوة النضيجة؛ وما كان منها صلب القشر كسرته له بطواحنها؛ ومتى عاد إلى اللبن أروته، ومتى ظمئ إلى الماء أرودته، متى ضحا ظللته؛ ومتى خصر أدفأته.

وإذا جن الليل صرفته إلى مكان الأول وجللته بنفسها وبريش كان هناك؛ مما ملئ به التابوت أولاً في وقت وضع الطفل فيه. وكان في غدوهما ورواحهما قد ألفهما ربرب يسرح ويبيت معهما حيث مبيتهما. فما زال الطفل مع الظباء على تلك الحال: يحكي نغمتها بصوته حتى لا يكاد يفرق بينهما؛ وكذلك كان يحكي جميع ما يسمعه من أصوات الطير وأنواع سائر الحيوان محاكاة شديدة لقوة انفعاله لما يريده ما كانت محاكاته لأصوات الظباء في الاستصراخ والاستئلاف والاستدعاء والاستدفاع. إذ للحيوانات في هذه الأحوال المختلفة أصوات مختلفة فألفته الوحوش وألفها؛ ولم تنكره ولا أنكرها.

فلما ثبت في نفسه أمثلة الأشياء بعد مغيبها عن مشاهدته، حدث له نزوغ إلى بعضها؛ وكراهية لبعض. وكان في ذلك كله ينظر إلى جميع الحيوانات فيراها كاسية بالاوبار و الأشعار و أنواع الريش، وكان يرى ما لها من العدو وقوة البطش، وما لها من الأسلحة المعدة لمدافعة من ينازعها، مثل القرون و الأنياب و الحوافر و الصياصي و المخالب. ثم يرجع إلى نفسه، فيرى ما به من العري وعدم السلاح، وضعف العدو، وقلة البطش، عندما كانت تنازعه الوحوش أكل الثمرات، وتستبد بها دونه، وتغلبه عليها، فلا يستطيع المدافعة عن نفسه، ولا الفرار عن شيء منها. وكان يرى أترابه من أولاد الظباء، قد تبتت لها قرون، بعد أن لم تكن، وصارت قوية بعد ضعفها في العدو.

ولم ير لنفسه شيئاً من ذلك فكان يفكر في ذلك ولا يدري ما سببه. وكان ينظر إلى ذوي العاهات والخلق الناقص فلا يجد لنفسه شبيهاً فيهم. وكان أيضاً ينظر إلى مخارج الفضول من سائر الحيوانات، فيراها مستورة: أما مخرج أغلظ الفضلتين فبالاذناب، وأما مخرج وأما مخرج أرقهما فبالاوبار وما أشبههما. ولأنها كانت أيضاً اخفى قضباناً منه. فكان ذلك ما يكربه ويسؤه.

فلما طال همه في ذلك كله، وهو قد قارب سبعة اعوام، ويئس من أن يكمل له ما قد أضر به نقصه، اتخذ من أوراق الشجر العريضة شيئاً جعل بعضه خلفه و بعضه قدمه، وعمل من الخوض والحلفاء شبه حزام على وسطه، علق به تلك الأوراق فلم يلبث إلا يسيراً حتى ذوى ذلك الورق وجف وتساقط. فما زال يتخذ غيره ويخصف بعضه ببعض طاقات مضاعفة، وربما كان ذلك أطول لبقائه إلا انه على كل حال قصير المدة.

واتخذ من أغصان الشجر عصياً وسوى أطرافها وعدل متنها. وكان بها على الوحوش المنازعة له، فيحمل على الضعيف منها، ويقاوم القوي منها، فنبل بذلك قدره عند نفسه بعض نباله، ورأى أن ليده فضلاً كثيراً على أيديها: إذ أمكن له بها ستر عورته واتخاذ العصي التي يدافع بها عن حوزته، ما استغنى به عما أراده من الذنب والعذاب الطبيعي. وفي خلال ذلك ترعرع واربى على السبع سنين، وطال به العناء في تجديد الأوراق التي كان يستتر بها.

فكانت نفسه عند ذلك تنازعه إلى اتخاذ ذنب من ذنوب الوحوش الميتة ليعلقه على نفسه، إلا أنه كان يرى أحياء الوحوش تتحامى ميتها وتفر عنه فلا يتأتى له الأقدام على ذلك الفعل، إلى أن صادف في الأيام نسراً ميتاً فهدي إلى نيل أمله منه، واغتنم الفرصة في، إذ لم ير للوحوش عنه نفرةً فأقدم عليه، وقطع جناحيه وذنبه صحاحاً كما هي، وفتح ريشها وسواها، وسلخ عنه سائر جلده، وفصله على قطعتين: ربط إحداهما على ظهره، وأخرى على سرته وما تحتها، وعلق الذنب من خلفه، وعلق الجناحين على عضديه، فأكسبه ذلك ستراً ودفئاً ومهابة في نفوس جميع الوحوش، حتى كانت لا تنازعه ولا تعارضه. فصار لايدنو إليه شيء منها سوى الظبية التي كانت أرضعته وربته: فانها لم تفارقه ولا فارقها، إلى أن اسنت وضعغت، فكان يرتاد بها المراعي الخصبة ويجتني لها الثمرات الحلوة، ويطعمها.

ومازل الهزل والضعف يستولي عليها ويتوالى، إلى أن أدركها الموت، فسكنت حركاتها بالجملة، وتعطلت جميع أفعالها. فلما رأها الصبي على تلك الحالة، جزع جزعاً شديداً، وكادت نفسه تفيض أسفاً عليها. فكان يناديها بالصوت الذي كانت عادتها أن تجيبه عند سماعه، ويصيح بأشد ما يقدر عليه، فلا لها عند ذلك حركة ولا تغييراً. فكان ينظر إلى أذنيها والى عينيها فلا يرى بها آفة ظاهرة، وكذلك كان ينظر إلى جميع أعضائها فلا يرى بشيء منها آفة.

فكان يطمع إن يعثر على موضع الآفة فيزيلها عنها، فترجع إلى ما كانت عليه فلم ياتت له شيء من ذلك ولا استطاعة. وكان الذي أرشده لهذا الرأي ما كان قد اعتبره في نفسه قبل ذلك: لانه كان يرى انه إذا غمض عينيه أو حجبهما بشيء لا يبصر حتى نزول ذلك العائق، وكذلك كان يرى انه اذا ادخل إصبعه في أذنيه وسدها لا يسمع شيئاً حتى يزول ذلك العارض، وإذا امسك أنفه بيده لا يشم شيئاً من الروائح حتى يفتح أنفه. فاعتقد من اجل ذلك إن جميع ماله من الادراكات و الأفعال قد تكون لها عوائق تعوقها، فإذا أزيلت العوائق عادت الأفعال.

فلما نظر إلى جميع أعضاء الظاهرة ولم ير فيها آفة ظاهرة - وكان يرى مع ذلك العطلة قد اشتملها ولم يختص بها عضو دون عضو - وقع في خاطرة أن الآفة التي نزلت بها، إنما هي العضو غائب عن العيان مستكن في باطن الجسد، وان ذلك العضو لا يغني عنه في فعله شيء من هذه الأعضاء الظاهرة. فلما نزلت به الآفة عمت المضرة، وشملت العطلة، وطمع لو أنه عثر على ذلك العضو وأزال عنه ما يزال به لاستقامت أحواله وفاض على سائر البدن نفعه، وعادت الأفعال إلى ما كانت عليه.

وكان قد شاهد قبل ذلك في الأشباح الميتة من الوحوش وسواها أن جميع أعضائها مصمتة لا تجويف فيها إلا القحف، والصدر، والبطن. فوقع في نفسه أن العضو الذي بتلك الصفة لن يعدو أحد هذه المواضع الثلاثة، وكان يغلب على ظنه غلبة قوية أنه إنما هو في الموضع المتوسط من هذه المواضع الثلاثة، إذ استقر في نفسه أن جميع الأعضاء محتاجة إليه، وأن الواجب بحسب ذلك أن يكون مسكنه في الوسط.

وكان أيضاً إذا رجع إلى ذاته، شعر بمثل هذا العضو في صدره لانه كان يعترض سائراً اعضائه كاليد، والرجل، والأذن، والانف، والعين، ويقدر مفارقتها، فيتاى له أنه كان يستغني عنها، وكان يقدر في رأسه مثل ذلك ويظن أنه يستغني عنه، فإذا فكر في الشيء الذي يجده في صدره، لم يتأت له الاستغناء عنه طرفة عين.

وكذلك كان عند محاربته للوحوش أكثر ما كان يتقي من صياصيهم على صدره، لشعوره بالشيء الذي فيه. فلما جزم الحكم بان العضو الذي نزلت به الآفة إنما هو في صدورها، اجمع على البحث عليه والتنقير عنه، لعله يظفر به، ويرى آفته فيزيلها ثم انه خاف أنه يكون نفس فعله هذا أعظم من الآفة التي نزلت بها أولاً فيكون سعيه عليها. ثم أنه تفكر: هل رأى من الوحوش وسواها، من ضار في مثل تلك الحال، ثم عاد إلى مثل حاله الأول؟ فلم يجد شيئاً! فحصل له من ذلك، اليأس من رجوعها إلى حالها الأولى إن هو تركها، وبقي له بعض الرجاء في رجوعها إلى تلك الحال إن هو وجد ذلك العضو وأزال الآفة عنه. فعزم على شق صدرها وتفتيش ما فيه، فاتخذ من كسور الأحجار الصلدة وشقوق القصب اليابسة، أشباه السكاكين، وشق بها بين أضلاعها حتى قطع اللحم الذي بين الأضلاع، وأفضى إلى الحجاب المستبطن للأضلاع فراه قوياً، فقوي ظنه مثل ذلك الحجاب لا يكون إلا لمثل ذلك العضو وطمع بأنه إذا تجاوزه ألفى مطلوبه فحاول شقه، فصعب عليه، لعدم الآلات، ولأنها لم تكن إلا من الحجارة والقصب، فاستجدها ثانية واستحدها وتلطف في خرق الحجاب حتى انخرق له، فأفضى إلى الرئة فظن أنها مطلوبه، فما زال يقلبها ويطلب موضع الآفة بها.

وكان أولاً نصفها الذي هو في الجانب الواحد. فلما راها مائلة إلى جهة واحدة، وكان قد اعتقد أن ذلك العضو لا يكون إلا في الوسط في عرض البدن، كما في الوسط في طوله. فمازال يفتش في وسط الصدر حتى ألفى القلب وهو مجلل بغشاء في غاية القوة مربوط بعلائق في غاية الوثاقة، والرثة مطيفة به من الجهة التي بدأ بالشق منها، فقال في نفسه: إن كان لهذا العضو من الجهة الأخرى مثل ما له من الجهة فهو في حقيقة الوسط، ولا محالة أنه مطلوبي. لا سيما مع ما أرى له حسن الوضع، وجمال الشكل، وقلة التشتت، وقوة اللحم، وأنه محجوب بمثل هذا الحجاب الذي لم أر مثله لشيء من الأعضاء. فبحث عن الجانب الآخر من الصدر، فوجد فيه الحجاب المستبطن للأضلاع، ووجد الرئة كمثل ما وجد من هذه الجهة.

فحكم بان ذلك العضو هو مطلوبه، فحاول هتك حجابه، وشق شغافه، فبكد واستكراه ما، قدر على ذلك، بعد استفراغ مجهوده. وجرد القلب فراه مصمتاً من كل جهة، فنظر هل يرى فيه آفة ظاهرة؟ فلم ير فيه شيئاً! فشد على يده، فتبين له أن فيه تجويفاً، فقال: لعل مطلوبي الأقصى إنما هو في داخل هذا العضو، وأنا حتى الآن لم أصل إليه. فشق عليه، فألقى فيه تجويفين اثنين احدهما من الجهة اليمنى والآخر من الجهة اليسرى، والذي من الجهة اليمنى مملوء بعقد منعقد، والذي من الجهة اليسرى خال لا شيء به.

فقال: لن يعدو مطلوبي أن يكون مسكنه أحد هذين البيتين. ثم قال: أما هذا البيت الأيمن، فلا أرى فيه إلا هذا الدم المنعقد. ولا شك أنه لم ينعقد حتى صار الجسد كله إلى هذا الحال - إذ كان قد شاهد الدماء متى سالت وخرجت انعقدت وجمدت ولم يكن هذا إلا دماً كسائر الدماء - وأنا أرى أن هذا الدم موجود في سائر الأعضاء لا يختص به عضو دون أخر، وأنا ليس مطلوبي شيئاً بهذه الصفة إنما مطلوبي الشيء الذي يختص به هذا الموضع الذي أجدني لا أستغني عنه طرفة العين، واليه كان انبعاثي من أول. واما هذا الدم فكم مرة جرحتني الوحوش في المحاربة فسال مني كثير منه فما ضرني ذلك ولا افقدني شيئاً من أفعالي، فهذا بيت ليس فيه مطلوبي. وأما هذا البيت الأيسر فأراه خالياً لاشيء فيه، وما أرى ذلك لباطل، فاني رأيت كل عضو من الأعضاء إنما لفعل يختص به، فكيف يكون هذا البيت على ما شاهدت من شرفه باطلاً؟ ما أرى إلا أن مطلوبي كان فيه! فارتحل عنه وأخلاه. وعند ذلك، طرأ على هذا الجسد من العطلة ما طرأ، ففقد الإدراك وعدم الحراك. فلما رأى أن الساكن في ذلك البيت قد ارتحل قبل انهدامه وتركه وهو بحاله، تحقق أنه أحرى أن لا يعود إليه بعد أن حدث فيه من الخراب والتخريق ما حدث. فصار عنده الجسد كله خسيساً لا قدر له بالإضافة إلى ذلك الشيء الذي اعتقد في نفسه أنه يسكنه مدة ويرحل عنه بعد ذلك.

فاقتصر على الفكرة في ذلك الشيء ما هو؟ وكيف هو؟ وما الذي ربطه بهذا الجسد؟ والى اين صار؟ ومن أي الأبواب خرج عند خروجه من الجسد؟ وما السبب الذي أزعجه إن كان خرج كارهاً؟ وما السبب الذي كره إليه الجسد، حتى فارقه إن كان خرج مختاراً؟ وتشتت فكره في ذلك كله، وسلا عن الجسد وطرحه، وعلم أن أمه التي عطفت عليه وأرضعته، إنما كانت ذلك الشيء المرتحل، وعنه كانت تصدر تلك الأفعال كلها، لا هذا الجسد العاطل وأن هذا الجسد بجملته، إنما هو كالآلة وبمنزلة العصي التي اتخذها هو لقتال الوحوش. فانتقلت علاقته عن الجسد إلى صاحب الجسد ومحركه، ولم يبق له شوق إلا إليه. وفي خلال ذلك نتن ذلك الجسد، وقامت منه روائح كريهة، فزادت نفرته عنه، وود أن لا يراه ثم انه سنح لنظره غرابان يقتتلان حتى صرع أحدهما الآخر ميتاً. ثم جعل الحي يبحث في الأرض حتى حفر حفرة فوارى فيها ذلك الميت بالتراب فقال في نفسه: ما أحسن ما صنع هذا الغراب في مواراة جيفة صاحبه وان كان قد أساء في قتله اياه! وأنا كنت أحق بالاهتداء إلى هذا الفعل بآمي! فحفر حفرة وألقى فيها جسد أمه، وحثا عليها التراب.

وبقي يتفكر في ذلك الشيء المصرف للجسد لا يدري ما هو! غير أنه كان ينظر إلى أشخاص الظباء كلها، فيراها على شكل أمه، وعلى صورتها فكان يغلب على ظنه، أن كل واحد منها إنما يحركه ويصرفه شيء هو مثل الشيء الذي كان يحرك أمه ويصرفها، فكان يألف الظباء ويحن إليها لمكان ذلك الشبه. وبقي على ذلك برهة من الزمن، يتصفح أنواع الحيوان والنبات ويطوف بساحل تلك الجزيرة، ويتطلب هل يرى أو يجد لنفسه شبيهاً حسبما يرى لكل واحد من أشخاص الحيوان والنبات أشباهاً كثيرة، فلا يجد شيئاً من ذلك. وكان يرى البحر قد أحدق بالجزيرة من كل جهة، فيعتقد أنه ليس في الوجود أرض سوى جزيرته تلك.

واتفق في بعض الاحيان أن انقدحت نار في أجمة قلخ على سبيل المحاكة. فلما بصر بها رأى منظراً هاله، وخلقاً لم يعهده قبل، فوقف يتعجب منها ملياً، ومازال يدنو منها شيئاً فشيئاً، فرأى ما للنار من الضوء الثاقب والفعل الغالب حتى لا تعلق بشيء إلا أتت عليه وأحالته إلى نفسها، فحمله، العجب بها، وبما ركب الله تعالى في طباعه من الجراءة و القوة، على أن يده إليها، وأراد أن يأخذ منها شيئاً فلما باشرها أحرقت يده فلم يستطع القبض عليها فاهتدى إلى أن يأخذ قبساً لم تستول النار على جميعه، فأخذ بطرفه السليم والنار في طرفه الآخر، فتاتي له ذلك وحمله إلى موضعه الذي كان يأوي إليه - وكان قد خلا في جحر استحسنه للسكنى قبل ذلك. ثم مازال يمد تلك النار بالحشيش والحطب الجزل، ويتعهدهاً ليلاً ونهاراً استحساناً منه وتعجباً منها.

وكان يزيد انسه بها ليلاً، لأنها كانت تقوم له مقام الشمس في الضياء و الدفء، فعظم بها ولوعه، واعتقد أنها أفضل الأشياء التي لديه: وكان دائماً يراها تتحرك إلى جهة فوق وتطلب العلو، فغلب على ظنه أنها من جملة الجواهر السماوية التي كان يشاهدها. وكان يختبر قوتها في جميع الأشياء بأن يلقيها فيها، فيراها مستولية عليه أما بسرعة واما ببطء بحسب قوة استعداد الجسم الذي كان يلقيه للاحتراق أو ضعفه. وكان من جملة ما القى فيها على سبيل الاختبار لقوتها، شيء من أصناف الحيوانات البحرية - كان قد ألقاه البحر إلى ساحله - فلما أنضجت ذلك الحيوان وسطع قتاره تحركت شهوته إليه، فأكل منه شيئاً فاستطابه، فاعتاد بذلك أكل اللحم، فصرف الحيلة في صيد البر والبحر، حتى مهر في ذلك. وزادت محبته للنار، إذ تأتي له بها من وجوه الاغتذاء الطيب شيء لم يتأت له قبل ذلك.

فلما اشتد شغفه بها لما رأى من أحسن آثارها وقوة اقتدارها، وقع في نفسه أن الشيء الذي ارتحل من قلب أمه الظبية التي أنشأته، كان من جوهر هذا الوجود أو من شيء يجانسه، وأكد ذلك في ظنه، ما كان يراه من حرارة الحيوان طول مدة حياته، وبرودته من بعد موته، وكل هذا دائم لا يختل، وما كان يجده في نفسه من شدة الحرارة عند صدره، بازاء الموضع الذي كان قد شق عليه من الظبية، فوقع في نفسه أنه لو أخذ حيواناً حياً وشق قلبه ونظر إلى ذلك التجويف الذي صادفه خالياً عندما شق عليه في أمه الظبية، لرأه في الحيوان الحي وهو مملوء بذلك الشيء الساكن فيه وتحقق هل هو من جوهر النار؟ وهل فيه شيء من الضوء والحرارة، آم لا؟ فعمد إلى بعد الوحوش واستوثق منه كتافاً وشقه على الصفة التي شق بها الظبية حتى وصل القلب. فقصد أولاً إلى الجهة اليسرى منه وشقها، فرأى ذلك الفراغ مملوءاً بهواء بخاري، يشبه الضباب الابيض، فأدخل إصبعه فيه، فوجده من الحرارة في حد كاد يحرقه، ومات ذلك الحيوان على الفور.

فصح عنده أن ذلك البخار الحار هو الذي كان يحرك هذا الحيوان، وأن في كل شخص من أشخاص الحيوانات مثل ذلك، ومتى انفصل عن الحيوان مات. ثم تحركت في نفسه الشهوة للبحث عن سائر أعضاء الحيوان وترتيبها وأوضاعها وكميتها وكيفية ارتباط بعضها ببعض، وكيف تستمد من هذا البخار الحار حتى تستمر لها الحياة به، وكيف بقاء هذا البخار المدة التي يبقى، ومن أين يستمد، وكيف لا تنفذ حرارته؟ فتتبع ذلك كله بتشريح الحيوانات الأحياء و الاموات، ولم يزل ينعم النظر فيها ويجيد الفكرة، حتى بلغ في ذلك كله مبلغ كبار الطبيعيين، فتبين له أن كل شخص من أشخاص الحيوان، وان كان كثيراً بأعضائه وتفنن حواسه وحركاته فانه واحد بذلك الروح الذي مبدؤه من قرار واحد، وانقسامه وانقسامه في سائر الأعضاء منبعث منه. وأن جميع الأعضاء إنما هي خادمة له، أو مؤدية عنه، وأن منزلة ذلك الروح في تصريف الجسد، كمنزلة من يحارب الأعداء بالسلاح التام، ويصيد جميع صيد البر والبحر، فيمد لكل جنس آلة يصيده بها والتي يحارب بها تنقسم: إلى ما يدفع به نكيلة غيره، والى ما ينكي بها غيره.

وكذلك آلات الصيد تنقسم: إلى ما يصلح لحيوان البحر، والى ما يصلح لحيوان البر، وكذلك الأشياء التي يشرح بها تنقسم: إلى ما يصلح للشق، والى ما يصلح للكسر، والى ما يصلح للثقب، والبدن الواحد، وهو يصرف ذلك أنحاء من التصريف بحسب ما تصلح له كل آلة، وبحسب الغايات التي تلتمس بذلك التصرف. كذلك؛ ذلك الروح الحيواني واحد، وإذا عمل بالة العين كان فعله أبصاراً، وإذا عمل بآلة الآذن كان فعله سمعاً، وإذا عمل بآلة الآنف كان فعله شماً، وإذا عمل بآلة اللسان كان فعله ذوقاً، وإذا عمل بالجلد واللحم كان فعله لمساً، وإذا عمل بالعضد كان فعله حركه، وإذا عمل بالكبد كان فعله غذاء واغتذاء.

ولكل واحد من هذه، أعضاء تخدمه. ولا يتم لشيء من هذه فعل إلا بما يصل إليها من ذلك الروح، على الطريق التي تسمى عصباً. ومتى انقطعت تلك الطرق أو انسدت، تعطل فعل ذلك العضو. وهذه الأعصاب إنما تستمد الروح من بطون الدماغ يستمد الروح من القلب، والدماغ فيه أرواح كثير، لانه موضع تتوزع فيه أقسام كثيرة: فآي عضو عدم هذا الروح بسبب من الأسباب تعطل فعله وصار بمنزلة الآلة المطرحة، التي يصرفها الفاعل ولا ينتفع بها. فان خرج هذا الروح بجملته عن الجسد، أو فني، أو تحلل بوجه من الوجوه، تعطل الجسد كله، وصار إلى حالة الموت، فانتهى به إلى هذا من منشئه، وذلك أحد وعشرون عاماً.

وفي خلال هذه المدة المذكورة تفنن في وجوه حيله، واكتسى بجلود الحيوانات التي كان يشرحها، واحتذى بها، واتخذ الخيوط من الأشعار ولحا قصب الخطمية والخباري والقنب، وكل نبات ذي خيط. وكان أصل اهتدائه إلى ذلك، أنه أخذ من الحلفاء وعمل خطاطيف من الشوك القوي والقصب المحدد على الحجارة.

واهتدى إلى البناء بما رأى من فعل الخطاطيف فاتخذ مخزناً وبيتاً لفضلة غذائه، وحصن عليه بباب من القصب المربوط بعضه إلى بعض، لئلا يصل إليه شيء من الحيوانات عند مغيبه عن تلك الجهة في بعض شؤونه. واستألف جوانح الطير ليستعين بها في الصيد، واتخذ الدواجن ببيضها وفراخها، واتخذ من الصياصي البقر الوحشية شبه الاسنة، وركبها في القصب القوي، وفي عصي الزان وغيرها، واستعان في ذلك بالنار وبحروف الحجارة، حتى صارت شبه الرماح، واتخذ ترسه من جلود مضاعة: كل ذلك لما رأى من عدمه السلاح الطبيعي. ولما رأى أن يده تفي له بكل ما فاته من ذلك، وكان لا يقاومه شيء من الحيوانات على اختلاف أنواعها، إلا أنها كانت عنه فتعجزه هرباً، فكر في وجه الحيلة في ذلك، فلم ير شيئاً أنجع له من أن يتالف بعض الحيوانات الشديدة العدو، ويحسن إليها بأعداد الغذاء الذي يصلح لها، حتى يتأتى له الركوب عليها ومطاردة سائر الأصناف بها.

وكان بتلك الجزيرة خيل البرية وحمر وحشية، فاتخذ منها ما يصلح له، وراضها حتى كمل بها غرضه، وعمل عليها من الشرك والجلود أمثال الشكائم والسروج فتاتي له بذلك ما امله من طرد الحيوانات التي صعبت عليه الحيلة في أخذها. وانما تفنن في هذه الأمور كلها ف وقت اشتغاله التشريح، وشهوته في وقوفه على خصائص أعضاء الحيوان، وبماذا تختلف، وذلك في المدة التي حددنا منتهاها بأحد وعشرين عاماً. ثم انه بعد ذلك أخذ في مآخذ أخر من النظر، فتصفح جميع الأجسام التي في عالم الكون والفساد: من الحيوانات على اختلاف أنواعها، والنبات والمعادن وأصناف الحجارة والتراب والماء والبخار والثلج والبرد، والدخان واللهيب والجمر، فرأى لها أصوافاً كثيرة وأفعالاً مختلفة، وحركات متفقة ومضادة، وأنعم النظر في ذلك والتثبت، فرأى أنها تتفق ببعض الصفات وتختلف ببعض، وأنها من الجهة التي تتفق بها واحدة، ومن الجهة التي تختلف فيها متغايرة ومتكثرة فكان تارة ينظر خصائص الأشياء وما يتفرد به بعضها عن بعض، فتكثر عنده كثرة تخرج عن الحصر، وينتشر له الوجود انتشار لا يضبط. كل عضو منها فيرى أنه يحتمل القسمة إلى أجزاء كثيرة جداً، فيحكم على ذاته بالكثرة، وكذلك على ذات كل شيء.

ثم كان يرجع إلى نظر آخر من طريق ثان، فيرى أن أعضاءه، وان كانت كثيرة فهي متصلة كلها بعضها ببعض، لا انفصال بينها بوجه، فهي في الحكم الواحد، وأنها لا تختلف إلا بحسب اختلاف أفعالها، أن ذلك الاختلاف إنما هو بسبب ما يصل إليها من قوة الروح الحيواني، الذي انتهى إليه نظره أولاً، وأن ذلك الروح واحد ذاته، وهو حقيقة الذات، وسائر الأعضاء كلها كالآلات، فكانت تتحد عنده ذاته بهذا الطريق.

ثم أنه كان ينتقل إلى جميع أنواع الحيوانات، فيرى كل شخص منها واحداً بهذا النوع من النظر. ثم كان ينظر إلى نوع منها: كالظباء والخيل وأصناف الطير صنفاً صنفاً، فكان يرى أشخاص كل نوع يشبه بعضه بعضاً في الأعضاء الظاهرة والباطنة الادراكات والحركات والمنازع، ولا يرى بينها اختلافاً إلا في أشياء يسيرة بالإضافة إلى ما اتفقت فيه.

وكان يحكم بان الروح الذي لجميع ذلك النوع شيء واحد، وأنه لم يختلف إلا أنه انقسم على قلوب كثيرة، وأنه لو أمكن أن يجمع جميع الذي افترق في تلك القلوب منه ويجعل في وعاء واحد، لكان كله شيئاً واحداً، بمنزلة ماء واحد، أو شراب واحد، يفرق على أوان كثيرة، ثم يجمع بعد ذلك. فهو في حالتي تفريقه وجمعه شيء واحد، إنما الغرض له التكثر بوجه ما، فكان يرى النوع بهذا النظر واحداً، ويجعل كثرة أشخاصه بمنزلة كثيرة أعضاء الشخص الواحد، التي لم تكن كثرة في الحقيقة.

ثم كان يحضر أنواع الحيوانات كلها في نفسه ويتأملها فيراها تتفق في أنها تحس، وتغتذي، وتتحرك بالإرادة إلى أي جهة شاءت، وكان قد علم أن هذه الأفعال هي أخص أفعال الروح الحيواني، وأن سائر الأشياء التي تختلف بها بعد هذا الاتفاق، ليست شديدة الاختصاص بالروح الحيواني. فظهر له بهذا التأمل، أن الروح الحيواني الذي لجميع جنس الحيوان واحد بالحقيقة، وان كان فيه اختلاف يسير، اختص به نوع دون نوع: بمنزلة ماء واحد مقسوم على أوان كثيرة، بعضه أبرد من بعض.

وهو في أصله واحد وكل ما كان في طبقة واحدة من البرودة، فهو بمنزلة اختصاص ذلك الروح الحيواني بنوع واحد، وان عرض له التكثر بوجه ما. فكان يرى جنس الحيوان كله واحداً بهذا النوع من النظر. ثم كان يرجع إلى أنواع النبات على اختلافها. فيرى كل نوع منها تشبه أشخاصه بعضها بعضاً في الأغصان، والورق، والزهر والثمر، والأفعال فكان يقيسها بالحيوان، ويعلم أن لها شيئاً واحداً فيه: هو لها بمنزلة الروح الحيواني وأنها بذلك الشيء واحد. وكذلك كان ينظر إلى جنس النبات كله، فيحكم باتحاده بحسب ما يراه من اتفاق فعله في أنه يتغذى وينمو.

ثم كان يجمع في نفسه جنس الحيوان وجنس النبات، فيراهما جميعاً متفقين في الاغتذاء والنمو، ألا أن الحيوان يزيد على النبات، بفضل الحس والادراك والتحرك؛ وربما ظهر في النبات شيء شبيه به، مثل تحول وجوه الزهر إلى جهة الشمس، وتحرك عروقه إلى الغذاء، بسبب شيء واحد مشترك بينهما، هو في أحدهما أتمم وأكمل، وفي الآخر قد عاقه عائق ما، وأن ذلك بمنزلة ماء واحد قسم بقسمين، أحدهما جامد والآخر سيال، فيتحد عنده النبات والحيوان. ثم ينظر إلى الأجسام التي لا تحس ولا تغتذي ولا تنمو، من الحجارة، والتراب، والماء، والهواء، واللهب، فيرى أنها أجسام مقدر لها الطول وعرض وعمق وأنها لاتختلف، إلا أن بعضها ذو لون وبعضها لا لون له وبعضها حار والآخر بارد، ونحو ذلك من الاختلافات وكان يرى أن الحار منها يصير بارداً، والبارد يصير حار وكان يرى الماء يصير بخاراً والبخار ماء، والأشياء المحترقة تصير جمراً، ورماداً، ولهيباً، ودخاناً، والدخان إذا وافق في صعوده قبة حجر انعقد فيه وصار بمنزلة سائر الأشياء الأرضية، فيظهر له بهذا التأمل، أن جميعها شيء واحد في الحقيقة، وان لحقتها الكثرة بوجه ما، فذلك مثل ما لحقت الكثرة للحيوان والنبات.

ثم ينظر إلى الشيء الذي اتحد به عند النبات والحيوان، فيرى أنه جسم ما مثل هذه الأجسام: له طول وعرض وعمق، وهو إما حار واما بارد، كواحد من هذه الأجسام التي لا تحس ولا تتغذى، وانما خالفها بأفعاله التي تظهر عنه بالآلات الحيوانية والنباتية لا غير، ولعل تلك الأفعال ليست ذاتية، وانما تسري إليه من شيء آخر ولو سرت إلى هذه الأجسام الآخر، لكانت مثله فكان ينظر إليه بذاته مجرداً عن هذه الأفعال، التي تظهر ببادئ الرأي، أنها صادرة عنه، فكان يرى أنه ليس إلا جسماً من هذه الأجسام، فيظهر له بهذا التأمل، أن الأجسام كلها شيء واحد: حيها وجمادها، متحركها وساكنها، إلا أنه يظهر أن لبعضها أفعالاً بالات، ولا يدري هل تلك الأفعال ذاتية لها، أو سارية أليها من غيرها. وكان في هذه الحال لا يرى شيئاً غير الأجسام فكان بهذا الطريق يرى الوجود كله شيئاً واحداً، وبالنظر الأول كثرة لا تنحصر ولا تتناهى. وبقي بحكم هذه الحالة مدة.

ثم انه تأمل جميع الأجسام حيها وجامدها. وهي التي هي عنده تارةً شيء واحد وتارةً كثيرة كثرة لا نهاية لها، فرأى إن كل واحد منها، لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يتحرك إلى جهة العلو مثل الدخان واللهيب والهواء، إذا حصل تحت الماء واما أن يتحرك إلى الجهة المضادة لتلك الجهة، وهي جهة السفل، مثل الماء، وأجزاء الحيوان و النبات، وأن كل جسم من هذه الأجسام لن يعرى عن إحدى هاتين الحركتين وأنه لا يسكن إلا إذا منعه مانع يعوقه عن طريقه، مثل الحجر النازل يصادف وجه الأرض صلباً، فلا يمكن أن يخرقه، ولو أمكنه ذلك لما انثنى عن حركته فيما يظهر، ولذلك إذا رفعته، وجدته يتحامل عليك بميله إلى جهة السفل، طالباً للنزول. وكذلك الدخان في صعوده، لا ينثني إلا أن يصادف قبة صلبة تحبسه، فحينئذً ينعطف يميناً وشمالاً ثم إذا تخلص من تلك القبة، خرق الهواء صاعداً لأن الهواء لا يمكنه أن يحبسه.

وكان يرى إن الهواء إذا ملئ به زق جلد، وربط ثم غوص تحت الماء طلب الصعود وتحامل على من يمسكه تحت الماء، ولا يزال يفعل ذلك حتى يوافي موضع الهواء، وذلك بخروجه من تحت الماء فحينئذً يسكن ويزول عنه ذلك التحامل والميل إلى جهة العلو الذي كان يوجد منه قبل ذلك. ونظر هل يجد جسماً يعرى عن إحدى هاتين الحركتين أو الميل إلى إحداهما في الوقت ما؟ فلم يجد ذلك في الأجسام التي لديه، وانما طلب ذلك، لانه طمع أن يجده، فيرى طبيعة الجسم من حيث هو جسم، دون أن تقترن به وصف من الأوصاف، التي هي منشأ التكثر. فلما أعياه ذلك ونظر إلى الأجسام التي هي أقل الأجسام حملاً للأوصاف فلم يرها تعرى عن أحد هذين الوصفين بوجه، وهما اللذان يعبر عنهما بالثقل والخفة فنظر إلى الثقل والخفة، هل هما للجسم من حيث هو جسم؟ أو هما لمعنى زائد على الجسمية؟ فظهر له أنهما لمعنى زائد على الجسمية لانهما لو كانا للجسم من حيث هو جسم، لما وجد إلا وهما له.

ونحن نجد الثقيل لا توجد فيه الخفة، والخفيف لا يوجد فيه الثقل، وهما لا محالة جسمان ولكل واحد منهما معنى منفرد به عن الأخر زائد على جسميته. وذلك المعنى، الذي به غاير كل واحد منهما الآخر، ولولا ذلك لكانا شيئاً واحداً من جميع الوجوه.

فتبين له أن حقيقة كل واحد من الثقيل والخفيف، مركبة من معنيين: أحدهما ما يقع فيه الاشتراك منهما جميعاً، وهو معنى الجسمية؛ والآخر ما تنفرد به حقيقة كل واحد منهما على الاخر، وهما أما الثقل في احدهما واما الخفة في الاخر، المقترنان بمعنى الجسمية، أي المعنى الذي يحرك أحدهما الأخر علواً والأخر سفلاً. وكذلك نظر إلى سائر الأجسام من الجمادات والأحياء، فرأى أن حقيقة وجود كل واحد منهما مركبة من معنى الجسمية، ومن شيء أخر زائد على الجسمية: أما واحد، واما أكثر من واحد؛ فلاحت له صور الأجسام على اختلافها وهو أول ما لاح له من العالم الروحاني، اذ هي صور لا تدرك بالحس، وانما تدرك بضرب ما من النظر العقلي.

ولاح له في جملة ما لاح من ذلك، أن الروح الحيواني الذي مسكنه القلب - وهو الذي تقدم شرحه أولاً - لابد له أيضاً من معنى زائد على جسميته يصلح بذلك المعنى لأن يعمل هذه الأعمال الغريبة، التي تختص به من ضروب الاحساسات، وفنون الادراكات وأصناف الحركات، وذلك المعنى هو صورته وفضله الذي انفصل به عن سائر الأجسام، وهو الذي يعبر عنه النظار بالنفس الحيوانية. وكذلك ايضاً للشيء الذي يقوم للنبات مقام الحار الغريزي للحيوان، شيء يخصه هو صورته، وهو الذي يعبر عنه النظار بالنفس النباتية. وكذلك لجميع الأجسام الجمادات: وهي ما عدا الحيوان والنبات مما في عالم الكون والفساد شيء يخصها به، يفعل كل واحد منها فعله الذي يختص به مثل صنوف الحركات وضروب الكيفيات المحسوسة عنها، وذلك الشيء هو صورة كل واحد منها، وهو الذي يعبر النظار عنه بالطبيعة.

فلما وقف بهذا النظر على ان حقيقة الروح الحيواني، الذي كان تشوقه اليه ابداً، مركبة من معنى الجسمية، ومن معنى أخر زائد على الجسمية، وان معنى الجسمية مشترك، ولسائر الأجسام، والمعنى الأخر المقترن به هو وحده، هان عنده معنى الجسمية فاطرحه، وتعلق فكره بالمعنى الثاني، وهو الذي يعبر عنه النفس؛ فتشوق إلى التحقق به فالتزم الفكرة فيه، وجعل مبدأ النظر في ذلك تصفح الأجسام كلها، لا من جهة ما هي أجسام، بل من وجهة ما هي ذوات صور تلزم عنها خواص، ينفصل بها بعضها ببعض. فتتبع ذلك وحصره في نفسه، فرأى جملة من الأجسام، تشترك في صورة ما يصدر عنها فعل ما، أو أفعال ما، ورأى فريقاً من تلك الجملة، مع أنه يشارك الجملة بتلك الصورة، يزيد عليها بصورة أخرى، يصدر عنها ما، ورأى طائفة من ذلك الفريق، مع أنها تشارك الفريق في الصورة الأولى والثانية، تزيد عليه بصوره ثالثة، تصدر عنها أفعال ما خاصة بها. مثال ذلك: إن الأجسام الأرضية، مثل التراب والحجارة والمعادن والنبات والحيوان، وسائر الأجسام الثقيلة، وهي جملة واحدة تشترك في صورة واحدة تصدر عنها الحركة إلى الأسفل، ما لم يعقها عائق عن النزول: ومتى تحركت إلى جهة العلو بالقسر ثم تركت، تحركت بصورتها إلى الأسفل. وفريق من هذه الجملة، وهو النبات والحيوان، مع مشاركة الجملة المتقدمة في تلك الصورة، يزيد عليها صورة أخرى، يصدر عنها التغذي والنمو. والتغذي: هو أن يخلف المتغذي، بدل ما تحلل منه، بان يحيل إلى ما التشبه بجوهره مادة قريبة منه، يجتذبها إلى نفسه.

والنمو: هو الحركة في الأقطار الثلاثة، على نسبة محفوظة في الطول والعرض والعمق.

فهذان الفعلان عامان للنبات والحيوان، وهما لا محالة صادران عن صورة مشتركة لهما، وهي المعبر عنها بالنفس النباتية. وطائفة من هذا الفريق، وهو الحيوان خاصة، مع مشاركته الفريق المتقدم في الصورة الأولى والثانية، تزيد عليه بصورة ثالثة، يصدر عنها الحس والتنقل من حين إلى أخر. ورأى أيضاً كل نوع من أنواع الحيوان، له خاصية ينحاز بها عن سائر الأنواع، وينفصل بها متميزاً عنها. فعلم إن ذلك صادر عن صورة له تخصه هي زائدة عن معنى الصورة المشتركة له ولسائر الحيوان، وكذلك لكل واحد من أنواع النبات مثل ذلك. فتبين له إن الأجسام المحسوسة التي في عالم الكون والفساد، بعضها تلتئم حقيقته من معان كثيرة، زائدة على معنى الجسمية، وبعضها من معان اقل؛ وعلم إن معرفة الأقل أسهل من معرفة الأكثر؛ فطلب أولاً الوقوف على الحقيقة لشيء الذي تلتئم حقيقته من اقل الأشياء، ورأى إن الحيوان والنبات، لا تلتئم حقائقها إلا من معان كثيرة، لتفنن أفعالها؛ فأخر التفكير في صورهما. وكذلك رأى إن أجزاء الأرض بعضها ابسط من بعض، فقصد منها إلى ابسط ما قدر عليه وكذلك رأى إن الماء شيء قليل التركيب، لقلة ما يصدر عن صورته من أفعال، وكذلك راى النار والهواء. وكان قد سبق إلى ظنه أولاً، أن هذه الأربعة يستحيل بعضها إلى بعض، وان لها شيئاً واحداً تشترك فيه، وهو معنى الجسمية، وان ذلك الشيء ينبغي إن يكون خلواً من المعاني التي تميز بها كل واحد من هذه الأربعة عن الأخر، فلا يمكن أن يتحرك إلى فوق ولا إلى اسفل، ولا إن يكون حاراً ولا يكون بارداً، ولا يكون رطباً، ولا يابساً، لان كل واحد من هذه الاوصاف، لا يعم جميع الأجسام، فليست إذن للجسم بما هو جسم.

فإذا أمكن وجود جسم لا صورة فيه زائدة على الجسمية، فليس تكون فيه صفة من هذه الصفات، ولا يمكن إن تكون فيه صفة إلا وهي تعم سائر الأجسام المتصورة، بضروب الصور. فنظر هل يجد وصفاً واحداً يعم جميع الأجسام: حيها وجمادها، فلم يجد شيئاً يعم الأجسام كلها. إلا معنى الامتداد الموجود في جميعها في الأقطار الثلاثة، التي يعبر عنها بالطول، والعرض، والعمق، فعلم هذا المعنى هو للجسم من حيث هو جسم، لكنه لم يتأت له بالحس وجود جسم بهذه الصفة وحدها، حتى لا يكون فيه معنى زائد على الامتداد المذكور ويكون بالجملة خلواً من سائر الصور. ثم تفكر في هذا الامتداد إلى الأقطار الثلاثة، هل هو معنى الجسم بعينه، وليس ثم معنى أخر أو ليس الأمر كذلك، فرأى أن وراء هذا الامتداد معنى أخر، هو الذي يوجد فيه هذا الامتداد، وان الامتداد وحده لا يمكن إن يقوم بنفسه كما إن ذلك الشيء الممتد، لا يمكن أن تقوم دون امتداد. واعتبر ذلك ببعض هذه الأجسام المحسوسة ذوات الصور، كالطين مثلاً، كان له طول وعرض وعمق على قدر ما.

ثم إن ت
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://albahito.alafdal.net
المدير العام
المــدير العام منشئ المنتدى
المــدير العام         منشئ المنتدى
المدير العام


عدد المساهمات : 1009
نقاط : 2828
تاريخ التسجيل : 29/11/2011
العمر : 12
الموقع : https://albahito.alafdal.net

حي بن يقظان Empty
مُساهمةموضوع: تتمة   حي بن يقظان Emptyالخميس مارس 29, 2012 1:10 pm

الحيوان، أو يتعرضه خيال من الخيالات، أو يناله ألم في أحد اعضائه، أو
يصيبه الجوع أو العطش أو البرد أو الحر، أو يحتاج القيام لدفع فضوله؛ فتختل
فكرته، ويزول عما كان فيه، ويتعذر عليه الرجوع إلى ما كان عليه من حال
المشاهدة، إلا بعد جهد. وكان يخاف أن تفاجأه منيته وهو في حال الأعراض،
فيفضي إلى الشقاء الدائم، وألم الحجاب.

فساءه حاله ذلك، وأعياء الدواء. فجعل يتصفح أنواع الحيوانات كلها، وينظر
أفعالها وما تسعى فيه، لعله يتفطن في بعضها أنها شعرت بهذا الموجود، وجعلت
تسعى نحوه، فيتعلم منها ما يكون في سبب نجاته. فرآها كلها إنما تسعى في
تحصيل غذائها، ومقتضى شهواتها من المطعوم والمشروب والمنكوح، والاستظلال
والاستدفاء، وتجد في ذلك ليلها ونهارها إلى حين مماتها وانقضاء مدتها. ولم
ير شيئاً منها ينحرف عن هذا الرأي، ولا يسعى لغيره في وقت من الأوقات، فبان
له بذلك أنها لم تشعر بذلك الموجود ولا اشتاقت إليه، ولا تعرفت إليه بوجه
من الوجوه، وأنها كلها صائرة إلى العدم، أو إلى حال شبيه بالعدم. فلما حكم
على ذلك بالحيوان، علم أن الحكم على النبات أولى، إذ ليس للنبات من
الادراكات إلا بعض ما للحيوان. وإذا كان الأكمل إدراكاً لم يصل إلى هذه
المعرفة، فالأنقص إدراكاً أحرى أن لا يصل، مع انه رأى أيضاً أن أفعال
النبات كلها لا تتعدى الغذاء والتوليد. ثم انه بعد ذلك نظر إلى الكواكب
والأفلاك فرآها كلها منتظمة الحركات، جارية على نسق؛ ورآها شفافة ومضيئة
بعيدة عن قبول التغيير والفساد، فحدس حدساً قوياً أن لها ذوات سوى أجسامها،
تعرف ذلك الموجود الواجب الوجود، وأن تلك الذوات العارفة ليست بأجسام، ولا
منطبعة في أجسام مثل ذاته، هو، العارفة، وكيف لا يكون لها مثل تلك الذوات
البريئة عن الجسمانية، ويكون لمثله على ما به من الضعف وشدة الاحتياج إلى
الأمور المحسوسة، وأنه من جملة الأجسام الفاسدة؟ ومع ما به من النقص، فلم
يعقه ذلك عن أن تكون ذاته بريئة عن الأجسام لا تفسد، فتبين له بذلك أن
الأجسام السماوية أولى بذلك، وعلم أنها تعرف ذلك الموجود الواجب الوجود
وتشاهد على الدوام بالفعل، لأن العوائق التي قطعت به هو عن الدوام المشاهدة
من العوارض المحسوسة، لا يوجد مثلها للأجسام السماوية.

ثم انه تفكر: لم اختص هو من بين سائر أنواع الحيوانات بهذه الذات التي أشبه
بها الأجسام السماوية. وقد كان تبين له أولاً من آمر العناصر واستحالة
بعضها إلى بعض، وأن جميع ما على وجه الأرض لا يبقى على صورته؛ بل الكون
والفساد متعاقبان عليه أبداً، وأن أكثر هذه الأجسام مختلطة مركبة من أشياء
متضادة، ولذلك تؤول إلى الفساد، وانه لا يوجد منه شيء صرفاً، وما كان منها
قريباً من أن يكون صرفاً خالصاً لا شائبة فيه، فهو بعيد عن الفساد جداً مثل
الذهب والياقوت، وأن الأجسام البسيطة صرفة، ولذلك هي بعيدة عن الفساد،
والصور لا تتعاقب عليها. وتبين له هنالك أن جميع الأجسام التي في عالم
الكون والفساد، منها ما تتقوم حقيقتها بصورة واحدة زائدة على معنى الجسمية -
وهذه هي الاسطقسات الأربع - ومنها ما تتقوم حقيقتها أكثر من ذلك كالحيوان
والنبات. فما كان قوام حقيقته بصور أقل، كانت أفعاله أقل، وبعده عن الحياة
أكثر، فان عدم الصورة جملة لم يكن فيه إلى الحياة طريق، وصار في حال شبيه
بالعدم، وما كان قوام حقيقته بصور أكثر، كانت أفعاله أكثر، ودخوله في حال
الحياة أبلغ؛ وان كانت تلك الصورة بحيث لا سبيل إلى مفارقتها لمادتها التي
اختصت بها كانت الحياة حينئذ كامل الظهور والكمال والقوة. فالشيء العديم
للصورة جملة هو الهيولى والمادة، ولا شيء من الحياة فيها وهي شبيهة بالعدم،
والشيء المتقوم بصورة واحدة هي الاسطقسات الأربع وهي في أول مراتب الوجود
في عالم الكون والفساد ومنها تتركب الأشياء ذوات الصور الكثيرة. وهذه
الاسطقسات ضعيفة الحياة جداً، إذ ليست تتحرك إلا حركة واحدة، وانما كانت
ضعيفة الحياة لان لكل واحد منها ضداً ظاهر العناد يخالفه في مقتضى طبيعته،
ويطلب أن يغير صورته.

فوجوده لذلك غير متمكن، وحياته ضعيف، والبات أقوى حياة منه والحيوان أظهر
حياة منه. وذلك أن ما كان من هذه المركبات تغلب عليه طبيعة أسطقس واحد،
فلقوته فيه يغلب طبائع الاسطقسات الباقية، ويبطل قواها، ويصير ذلك المركب
في حكم الاسطقس الغالب، فلا يستأهل لاجل ذلك من الحياة آل شيئا يسيراً، كما
إن ذلك الاسطقس لا يستأهل من الحياة إلا يسيراً ضعيفاً وما كان من هذه
المركبات لا تغلب عليه طبيعة أسطقس واحد منها، فان الاسطقسات تكون فيه
متعادلة متكافئة، فإذن لا يبطل لأحدهما الآخر قوة الآخر بأكثر مما يبطل ذلك
الآخر قوته، بل يفعل بعضها في بعض فعلاً متساوياً، فلا يكون فعل أحد
الاسطقسات أظهر فيه، ولا يستولي عليه أحدها، فيكون بعيد الشبه من كل واحد
من الاسطقسات، فكأنه لا مضادة لصورته، فيستأهل الحياة بذلك. ومتى زاد هذا
الاعتدال وكان أتم وأبعد من الانحراف، كان بعده عن أن يوجد له ضد أكثر،
وكانت حياته أكمل. ولما كان الروح الحيواني الذي مسكنه القلب، شديد
الاعتدال، لانه ألطف من الأرض والماء وأغلظ من النار والهواء، صار في حكم
الوسط ولم يضاده شيء من الاسطقسات مضادة بينه.

فاستعد بذلك الصورة الحيوانية، فرأى أن الواجب إلى ذلك أن يكون أعدل ما في
هذه الأرواح الحيوانية مستعداً لاتمم ما يكون من الحياة في عالم الكون
والفساد، وأن يكون ذلك الروح قريباً من أن يقال أنه لا ضد لصورته، فيشبه
لذلك هذه الأجسام السماوية التي لا ضد لصورها؛ ويكون روح ذلك الحيوان،
وكأنه وسط بالحقيقة بين الاسطقسات التي لا تتحرك إلى جهة العلو على
الإطلاق، ولا إلى جهة السفل، بل لو أمكن أن يجعل في وسط المسافة بين
المراكز وأعلى ما تنتهي إليه النار في جهة العلو ولم يطرأ عليه الفساد،
لثبت هناك ولم يطلب الصعود ولا نزول. ولو تحرك في المكان، لتحرك حول الوسط
كما تتحرك الأجسام السماوية، ولو تحرك في الوضع، لتحرك على نفسه، وكان كروي
الشكل إذ لا يمكن غير ذلك، فإذن هو شديد الشبه بالأجسام السماوية. ولما
كان قد اعتقد أن أحوال الحيوان، ولم ير فيها ما يظن به انه شعر بالموجود
الواجب الوجود، وقد كان علم من ذاتها قد شعرت به، قطع ذلك على أنه هو
الحيوان المعتدل الروح، الشيبة بالأجسام السماوية وتبين لو انه نوع مباين
لسائر الحيوان، وانه إنما خلق لغاية أخرى، وأعد لامر عظيم، لم يعد له شيء
من أنواع الحيوان، وكفى به شرفاً أن يكون أحس جزأيه - وهو الجسماني - أشبه
الأشياء بالجواهر السماوية الخارجة عن عالم الكون والفساد، المنزهة عن
الحوادث النقص والاستحالة والتغيير. وأما أشرف جزأيه، فهو الشيء الذي به
عرف الموجود الواجب الوجود، وهذا الشيء العارف، أمر رباني الهي يستحيل ولا
يلحقه الفساد، ولا يوصف بشيء مما توصف به الأجسام، ولا يدرك بشيء من
الحواس، ولا يتخيل، ولا يتوصل إلى معرفته بآلة سواه، بل يتوصل إليه به؛ فهو
العارف والمعروف، والمعرفة؛ وهو العالم، والمعلوم، والعلم؛ لا يتباين في
شيء من ذلك، إذ التباين والانفصال من صفات الأجسام ولواحقها، ولا جسم هنالك
ولا صفة جسم ولا لاحق بجسم! فلما تبين له الوجه الذي اختص به من بين سائر
أصناف الحيوان بمشابهة الأجسام السماوية، رأى إن الواجب عليه أن يتقبلها
ويحاكي أفعالها ويتشبه بها جهده. وكذلك رأى أنه بجزئه الاشرف الذي به عرف
الموجود الواجب الوجود، فيه شبه ما منه من حيث هو منزه عن صفات الأجسام،
وكما أن الواجب الوجود منزه عنها، فرأى ايضاً انه يجب عليه أن يسعى في
تحصيل صفاته لنفسه من أي وجه أمكن، وان يتخلق بأخلاقه ويقتدي بأفعاله، ويجد
في تنفيذ إرادته، ويسلم الآمر له، ويرضى بجميع حكمه، رضى من قلبه ظاهراً
وباطناً، بحيث يسر به وان كان مؤلماً لجسمه وضاراً به ومتلفتاً لبدنه
بالجملة. وكذلك رأى فيه شبهاً من سائر أنواع الحيوان بجزئه الخسيس الذي هو
من عالم الكون والفساد، وهو البدن المظلم والكثيف، الذي يطالبه بأنواع
المحسوسات من المطعوم والمشروب والمنكوح، ورأى أيضاً أن ذلك البدن لم يخلق
له عبثاً ولا قرن به لامر باطل، ويجب عليه أن يتفقده ويصلح من شأنه. هذا
التفقد لا يكون منه إلا بفعل يشبه أفعال سائر الحيوان. فاتجهت عنده الأعمال
التي يجب عليه أن يفعلها نحو ثلاثة أغراض: أما عمل يتشبه بالحيوان الغير
الناطق.

واما عمل يتشبه به بالأجسام السماوية. واما عمل يتشبه به بالموجود الواجب
الوجود. فالتشبه الأول: يجب عليه من حيث البدن المظلم ذو الأعضاء المنقسمة،
والقوى المختلفة، والمنازع المتفننة. والتشبه الثاني: يجب عليه من حيث له
الروح الحيواني الذي مسكنه القلب، وهو مبدأ لسائر البدن، ولما فيه من
القوى. والتشبه الثالث: يجب عليه من حيث هو، أي: من حيث هو الذات التي بها
عرف ذلك الموجود الواجب الوجود. وكان أولاً قد وقف على أن سعادته وفوزه من
الشقاء، إنما هي في دوام المشاهدة لهذا الموجود الواجب الوجود، حتى يكون
بحيث لا يعرض بطرفة عين. ثم أنه نظر بالوجه الذي يتأتى له به هذا الدوام،
فأخر له النظر أنه يجب عليه الاعتمال في هذه الأقسام الثلاثة من التشبيهات:
آما التشبه الأول، فلا يحصل له به شيء من هذه المشاهدة، بل هو صارف عنها
وعائق دونها، إذ هو تصرف في الأمور المحسوسة، والأمور المحسوسة كلها حجب
معترضة دون تلك المشاهدة؛ وانما احتيج إلى هذا التشبه لاستدامة هذا الروح
الحيواني الذي يحصل به التشبه الثاني بالأجسام السماوية.

فالضرورة تدعو إليه من هذا الطريق،ولو كان لا يخلو من تلك المضرة. واما
التشبه الثاني، فيحصل له به حظ عظيم من المشاهدة على الدوام، لكنها مشاهدة
يخالطها شوب؛ اذ من يشاهد ذلك النحو من المشاهدة على الدوام فهو مع تلك
المشاهدة يعقل ذاته ويلتفت إليه حسبما يتبين بعد هذا. واما التشبه الثالث،
فتحصل به المشاهدة الصرفة، والاستغراق المحض الذي لا التفات فيه بوجه من
الوجوه الا إلى الموجود الواجب الوجود، والذي يشاهد هذه المشاهدة قد غابت
عنه ذات نفسه وفنيت وتلاشت. وكذلك سائر الذوات، كثيرة كانت أو قليلة، إلا
ذات الواحد الحق الواجب الوجود - جل وتعالى وعز. فلما تبين له أن مطلوبه
الأقصى هو هذا التشبه الثالث، وأنه لا يحصل له إلا بعد التمرن والاعتمال
مدة طويلة في التشبه الثاني، وان هذه المدة لا تدوم له بالتشبه الأول، وعلم
أن التشبه الأول - وان كان ضرورياً، فانه عائق بذاته وان كان معيناً
بالعرض لا بالذات لكنه ضروري- فألزم نفسه أن لا يجعل لها حظاً من هذا
التشبه الأول، إلا بقدر الضرورة، وهي الكفاية التي لا بقاء للروح الحيواني
بأقل منها. ووجد ما تدعو إليه الضرورة في بقاء هذا الروح أمرين: أحدهما: ما
يمده من الداخل، ويخلف عليه بدل ما يتخلل منه وهو الغذاء. والأخر: ما يقيه
من الخارج، ويدفع عنه وجوه الأذى: من البرد والحر والمطر ولفح الشمس
والحيوانات المؤذية ونحو ذلك. ورأى أنه إن تناول ضرورية من هذه جزافاً
كيفما اتفق، ربما وقع في السرف واخذ فوق الكفاية. فكان سعيه على نفسه من
حيث لا يشعر، فرأى أن الحزم له أن يفرض لنفسه فيها حدوداً لا يتعداها،
ومقادير لا يتجاوزها، وبأن له الفرض يجب أن يكون في جنس ما يتغذى به. وأي
شيء يكون وفي مقداره وفي المدة التي تكون بين العبادات إليه. فنظر أولاً
إلى أجناس ما به يتغذى، فرآها ثلاثة أضرب: أولاً: أما نبات لم يكمل بعد
نضجه ولم ينته إلى غاية تمامه، وهي أصناف البقول الرطبة التي يمكن الاغتذاء
بها.

ثانياً: واما ثمرات النبات الذي تم وانتهى وأخرج بذرة ليتكون منه أخر من
نوعه حفظاً له، وهي أصناف الفواكه رطبها ويابسها. ثالثاً: واما حيوان من
الحيوانات التي يتغذى بها: أما البرية واما البحرية. وكان قد صح عنده أن
هذه الأجناس كلها، من فعل ذلك الموجود الواجب الوجود الذي تبين له أن
سعادته في القرب منه، وطلب التشبه به، ولا محالة أن الاغتذاء بها مما
يقطعها عن كمالها ويحول بينها وبين الغاية القصوى المقصودة بها. فكان ذلك
اعتراض على فعل الفاعل. وهذا الاعتراض مضاد لما يطلبه من القرب منه والتشبه
به. فرأى أن الصواب كان له لو أمكن أن يمتنع عن الغذاء جملة واحدة، لكنه
لما لم يمكنه ذلك، لانه أن امتنع عنه أل ذلك إلى فساد جسمه، فيكون ذلك
اعتراضاً على فاعله أشد من الأول، إذ هو أشرف من تلك الأشياء الآخر التي
يكون فسادها سبباً لبقائه.

فاستهل أيسر الضررين، وتسامح في اخف الاعتراضين، ورأى إن يأخذ من هذه
الأجناس إذا عدمت آيها تيسر له، بالقدر الذي يتبين له بعد هذا. فأما إن
كانت كلها موجودة فينبغي له حينئذ إن يتثبت ويتخير منها ما لم يكن في أخذه
كبير اعتراض على فعل فاعل، وذلك مثل لحوم الفواكه التي قد تناهت في الطيب،
وصلح ما فيها لتوليد البزر على الشرط التحفظ على ذلك البزر، بان لا يأكله
ولا يفسده ولا يلقيه في موضع لا يصلح للنبات، مثل الصفاة والسبخة ونحوهما.
فان تعذر عليه وجود مثل هذه الثمرات ذات الطعم الغاذي، كالتفاح والكمثرى
والأجاص ونحوها، كان له عند ذلك إن يأكل آما الثمرات التي لا يغذو منها إلا
نفس البزر، كالجوز والقسطل، واما من البقول التي لم تصل بعد حد كمالها.
والشرط عليه في هذين لأن يقصد أكثرها وجوداً وأقواها توليداً، وان لا
يستأصل أصولها ولا يفني بزرها. فان عدم هذه، فله أن يأخذ من الحيوان آو من
بيضه، والشرط عليه من الحيوان إن يأخذ من أكثره وجوداً، ويستأصل منه نوعاً
بأسره. هذا ما رأى في جنس ما يتغذى به. واما المقدر فرأى أن يكون بحسب ما
يسد خلة الجوع ولا يزيد عليها. واما الزمان الذي بين كل عودتين، فرأى انه
إذا اخذ حاجته من الغذاء، أن يقيم عليه ولا يتعرض لسواه، حتى يلحقه ضعف
يقطع به بعض الأعمال التي تجب عليه في التشبه الثاني، وهي التي يأتي ذكرها
بعد هذا. فأما ما تدعو إليه الضرورة في بقاء الروح الحيواني مما يقيه من
خارج، فكان الخطب فيه يسيراً: إذ كان مكتسياً بالجلود، وقد كان له مسكن
يقيه مما يرد عليه من خارج، فاكتفى بذلك ولم يرى الاشتغال به، والتزم في
غذائه القوانين التي رسمها لنفسه، وهي التي تقدم شرحها. ثم اخذ في العمل
الثاني، وهو التشبه بالأجسام السماوية والاقتداء بها، والتقبل أوصافها،
فانحصرت عنده في ثلاثة أضرب: الضرب الأول: أوصاف لها بالإضافة إلى ما تحتها
من عالم الكون والفساد، وهي ما تعطيه إياه من التسخين بالذات، آو التبريد
بالعرض، والإضاءة والتلطيف والتكثيف، إلى سائر ما تفعل فيه من الأمور التي
بها يستعد لفيضان الصور الروحانية عليه من عند الفاعل الواجب الوجود.
والضرب الثاني: أوصاف لها في ذاتها، مثل كونها شفافة وناصعة وطاهرة منزهة
عن الكدر وضروب الرجس، ومتحركة بالاستدارة بعضها على مركز نفسها، وبعضها
على مركز غيرها.

والضرب الثالث: أوصاف لها بالإضافة إلى الموجود الواجب الوجود، مثل كونها
تشاهد مشاهدة دائمة، وتعرض عنه، وتتشوق إليه، وتتصرف بحكمه، وتتسخر في
تتميم إرادته، ولا تتحرك إلا بمشيئته وفي قبضته. فجعل يتشبه بها جهده في كل
من هذه الاضرب الثلاثة. آما الضرب الأول: فكان تشبه بها فيه: إن ألزم نفسه
إن لا يرى ذا حاجة آو عاهة آو مضرة، أو ذا عائق من الحيوان أو النبات، وهو
يقدر على أزالتها عنه إلا ويزيلها. فمتى وقع بصره على نبات قد حجبه عن
الشمس حاجب آو تعلق به نبات آخر يؤذيه، أو عطش عطشاً يكاد يفسده، أزال عنه
ذلك الحاجب إن كان ما يزال، وفصل بينه وبين ذلك المؤذي بفاصل لا يضر
المؤذي، وتهده بالسقي ما أمكنه. ومتى وقع بصره على حيوان قد أرهقه سبع آو
نشب به ناشب، آو تعلق به شوك، آو سقط على عينيه آو آذنيه شيء يؤذيه، آو مسه
ظمأ آو جوع، تكفل بإزالة ذلك كله عنه جهده واطعمه وسقاه. ومتى وقع بصره
على ماء يسيل إلى سقي نبات أو حيوان وقد عاقه عن ممره ذلك عائق، من حجر سقط
فيه، آو جرف انهار عليه، ازال ذلك كله عنه. وما زال يمعن في هذا النوع من
ضروب التشبه حتى بلغ فيه الغاية. واما الضرب الثاني: فكان تشبهه بها فيه إن
الزم نفسه دوام الطهارة وإزالة الدنس والرجس عن جسمه والاغتسال بالماء في
أكثر الأوقات، وتنظيف ما كان من أظافره واسنانه ومغابن بدنه، وتطيبها بما
أمكن من طيبات النبات وصنوف الدهون العطرة، وتعهد لباسه بالتنظيف والتطييب
حتى كان يتلألأ حسناً وجمالاً ونظافة وطيباً. والتزم مع ذلك ضروب الحركة
على الاستدارة: فتارةً كان يطوف بالجزيرة، ويدور على ساحلها ويسيح
باكنافها، وتارةً كان يطوف ببيته، او ببعض الكدى أدوارا معدوده: آما مشياً،
آما هرولة؛ وتارة يدور على نفسه حتى يغشه عليه.

وأما الضرب الثالث: فكان تشبهه بها فيه، إن كان يلازم الفكرة في تلك
الموجود الواجب الوجود، ثم يقطع علائق المحسوسات. ويغمض عينيه، ويسد أذنيه،
ويضرب جهده عن تتبع الخيال، ويروم بمبلغ طاقته إن لا يفكر في شيء سواه،
ولا يشترك به احداً ويستعين على ذلك بالاستدارة على نفسه والاستحثاث فيها.

فكان اذا اشتد في الاستدارة، غابت عنه جميع المحسوسات، وضعف الخيال وسائر
القوى التي إلى الألأت الجسمانية، وقوي فعل ذاته - التي هي بريئة من الجسم -
فكانت في بعض الأوقات فكرته قد تخلص عن الشوب ويشاهد بها الموجود الواجب
الوجود، ثم تكر عليه القوى الجسمانية فتفسد عليه حاله، وترده إلى اسفل
السافلين. ويعود من ذي قبل، فان لحقه ضعف يقطع به عن غرضه تناول بعض
الأغذية عن الشرائط المذكورة. ثم انتقل إلى شأنه من التشبه بالأجسام
السماوية بالأضرب الثلاثة المذكورة. ودأب على ذلك مدة وهو يجاهد قواه
الجسمانية وتجاهده، وينازعها وتنازعه في الأوقات التي يكون له عليها
الظهور، وتتخلص فكرته عن الشوب، يلوح له شيء من أحوال أهل التشبه الثالث.

ثم جعل يطلب التشبه الثالث، ويسعى في تحصيله، فينظر في صفات الموجود الواجب
الوجود. وقد كان تبين له أثناء نظره العلمي قبل الشروع في العمل، إنها على
ضربين: آما صفة ثبوت: كالعلم والقدرة والحكمة.

وأما صففة سلب: كتنزه عن الجسمانية وعن صفات الأجسام ولواحقها، وما يتعلق
بها، ولو على بعد.

وأن صفات الثبوت يشترط فيها هذا التنزيه حتى لا يكون فيها شيء من صفات
الأجسام التي من جملتها الكثرة، فلا تتكثر ذاته بهذه الصفات الثبوتية، ثم
ترجع كلها إلى معنى واحد هي حقيقة ذاته. فجعل يطلب كيف يتشبه به في كل واحد
من هذين الضربين. آما صفات الاجاب، فلما علم انها كلها راجعة إلى حقيقة
ذاته، وانه لا كثرة فيها بوجه من الوجوه، إذ الكثرة من صفات الأجسام؛ وعلم
إن علمه بذاته؛ ليس معنى زائداً على ذاته، بل ذاته هي علمه لذاته؛ وعلمه
بذاته هو ذاته، تبين له انه إن أمكنه هو إن يعلم ذاته، فليس ذلك العلم الذي
علم به ذاته معنى زائداً على ذاته، بل هو هو! فرأى إن التشبه به من صفات
الاجاب، هو ان يعلمه فقط دون إن يشرك به شيئاً من صفات الأجسام؛ فاخذ نفسه
بذلك. واما صقات السلب، فانها كلها راجعة إلى التنزه عن الجسمية. فجعل يطرح
اوصاف الجسمية عن ذاته. وكان قد طرح منها كثيراً في رياضته المتقدمة التي
كان ينحو بها بالتشبه بالأجسام السماوية. إلا انه أبقى منها بقايا كثيرة:
كحركة الاستدارة - والحركة من أخص صفات الأجسام - وكل الاعتناء بأمر
الحيوان والنبات والرحمة لها، والاهتمام بإزالة عوائقها. فان هذه أيضاً من
صفات الأجسام، إذ لا يراها أولاً إلا بقوة جسمانية، ثم يكدح بأمرها بقوة
جسمانية أيضاً. فاخذ في طرح ذلك كله عن نفسه، إذ هي بجملتها مما لا يليق
بهذه الحالة التي يطلبها الآن.

وما زال يقتصر على السكون في قصر مغارته مطرقاً، غاضاً بصره، معرضاً عن
جميع المحسوسات والقوى الجسمانية، مجتمع الهم والفكرة في الموجود الواجب
الوجود وحده دون شركه؛ فمتى سنح بخياله سانح سواه، طرده عن خياله جهده،
ودافعه وراض نفسه على ذلك، ودأب فيه مدة طويلة، بحيث تمر عليه عدة أيام لا
يتغذى فيها ولا يتحرك. وفي خلال شدة مجاهدته هذه ربما كانت تغيب عن ذكره
وفكره جميع الأشياء إلا ذاته، فانها كانت لا تغيب عنه في وقت استغراقه
بمشاهدة الموجود الأول الحق الواجب الوجود.

فكان يسوءه ذلك، ويعلم انه شوب في المشاهدة المحضة، وشركه في الملاحظة.
ومازال يطلب الفناء عن نفسه والإخلاص في مشاهدة الحق حتى تأتى له ذلك،
وغابت عن ذكره وفكره السموات والأرض وما بينهما، وجميع الصور الروحانية
والقوى الجسمانية، وجميع القوى المفارقة للمواد، والتي هي الذوات العارفه
بالموجود الحق؛ وغابت ذاته في جملة تلك الذوات، وتلاشى الكل واضمحل، وصار
هباءً منثوراً، ولم يبقى إلا الواحد الحق الموجود الثابت الوجود.

وهو يقول بقوله الذي ليس معنى زائداً على ذاته: "بسم الله الرحمن الرحيم"
لمن الملك اليوم لله الواحد القهار صدق الله العظيم ففهم كلامه وسمع ندائه
ولم يمنعه عن فهمه كونه لا يعرف الكلام، ولا يتكلم.

واستغرق في حالته هذه وشاهد ما لا عين رأت ولا إذن سمعت! ولا خطر على قلب
بشر. فلا تعلق قلبك بوصف آمر لم يخطر على قلب بشر، فان كثيراً من الأمور
التي تخطر على قلوب البشر قد يتعذر وصفه، فكيف بأمر لا سبيل إلى خطورة على
القلب، ولا هو من عالمه ولا من طوره!؟ ولست أعني بالقلب جسم القلب، ولا
الروح التي في تجويفه بل أعني صورة تلك الروح الفائضة بقواها على بدن
الإنسان، فان كل واحد من هذه الثلاثة قد يقال له قلب ولكن لا سبيل لخطور
ذلك الآمر على واحد من هذه الثلاثة، ولا يتأتى التعبير إلا عما الخطر علها.

ومن رام التعبير عن تلك الحال، فقد رام مستحيلاً وهو بمنزلة من يريد أن
يذوق الألوان من حيث هي الألوان، ويطلب أن يكون السواد مثلاً حلواً أو
حامضاً.

لكنا، مع ذلك، لا نخيلك عن إشارات نومئ بها إلى ما شاهده من عجائب ذلك
المقام، على سبيل ضرب المثل، لا على سبيل قرع باب الحقيقية. إذ لا سبيل إلى
التحقق بما في ذلك المقام إلا بالوصول إليه.

فأصغ الآن بسمع قلبك، وحدق ييصر إلى ما أشير به اليك لعلك أن تجد منه هدياً
يلقيك على جادة الطريق! وشرطي عليك أن لا تطلب مني في هذا الوقت مزيد بيان
بالمشافهة على ما أودعه هذه الاوراق فان المجال ضيق، والتحكم بالألفاظ على
آمر ليس من شأنه أن يلفظ به خطر.

فأقول: انه لما فني عن ذاتهوعن جميع وعن جميع الذوات ولم ير في الوجود إلا
الواحد القيوم، وشاهد ما شاهد، ثم عاد إلى ملاحظة الاغيار عندما آفاق من
حالة تلك التي شبيه بالسكر، خطر بباله انه لا ذات له يغاير بها ذات الحق
تعالى، وان حقيقة ذاته هي ذات الحق، وان الشيء الذي كان يظن أولاً انه ذات
المغايرة لذات الحق، ليس شيئاً في الحقيقة، بل ليس ثم شيء إلا ذات الحق،
وان ذلك بمنزلة نور الشمس الذي يقع على الأجسام الكثيفة فتراه يظهر فيها.

فإنه وإن نسب إلى الجسم الذي يظهر فيه، فليس هو في الحقيقية شيئاً سوى نور
الشمس. وان زال ذلك الجسم زال نوره، وبقي نور الشمس بحاله لم ينقص عند حضور
ذلك الجسم ولم يزد عند مغيبه.

ومتى حدث جسم يصلح لقبول ذلك النور، قبله، فإذا عدم الجسم عدم ذلك القبول،
ولك يكن له معنى، عنده هذا الظن بما قد بان له من إن ذات الحق، عز وجل، لا
تتكثر بوجهه من الوجوه، وأن علمه بذاته، وهو ذاته بعينها.

فلزم عنده من هذا أن حصل عنده العلم بذاته، فقد حصلت عنده ذاته، وقد كان
حصل عنده العلم فحصلت عنده الذات.

وهذه الذات لا تحصل إلا عند ذاتها، ونفس حصولها هو الذات؛ فإذن هو الذات
بعينها. وكذلك جميع الذوات المفارقة للمادة العارفة بتلك الذات الحقه التي
كان يراها أولاً كثيرة، وصارت عنده بهذا الظن شيئاً واحداً. وكادت هذه
الشبه ترسخ في نفسه لولا أن تداركه الله برحمته وتلافاه بهدايته، فعلم إن
الشبهة انما ثارت عنده من بقايا ظلمة الأجسام، وكدورة المحسوسات. فان
الكثير والقليل والواحد والوحدة، والجمع والاجتماع، والافتراق، هي كلها من
صفات الأجسام، وتلك الذوات المفارقة العارفة بذات الحق، عز وجل، لبرائتها
عن المادة، لا يجب إن يقال انها كثيرة، ولا واحدة، لان الكثرة انما هي
مغايرة الذوات بعضها لبعض، والوحدة أيضاً لا تكون إلا بالاتصال. ولا يفهم
شيء من ذلك إلا في المعاني المركبة المتلبسة بالمادة. غير إن العبارة في
هذا الموضع قد تضيق جداً لانك إن عبرت عن تلك الذوات المفارقة بصيغة الجمع
حسب لفظنا هذا، أوهم ذلك معنى الكثرة فيها، وهي بريئة عن الكثرة. وان أنت
عبرت بصيغة الإفراد، اوهم ذلك معنى الاتحاد، وهو مستحيل عليها. وكأني بمن
يقف على هذا الموضع من الخفافيش الذين تظلم الشمس في أعينهم يتحرك في سلسلة
جنونه، ويقول: لقد افرطت في تدقيقك حتى انك قد انخلعت عن غريزة العقلاء،
واطرحت حكم معقول، فان من أحكام العقل إن الشيء آما واحد واما كثير، فليتئد
في غلوائه، وليكف من غرب لسانه وليتهم نفسه، وليعتبر بالعالم المحسوس
الخسيس الذي هو أطباقه بنحو ما اعتبر به حي بن يقظان حيث كان بنظر فيه بنظر
فيراه كثيراً كثرة لا تنحصر ولا تدخل تحت حد، ثم ينظر فيه بنظر آخر، فيراه
واحداً. وبقي في ذلك متردداً ولم يكنه إن يقطع بأحد الوصفين دون الآخر.
هذا فالعالم المحسوس منشأ الجمع والإفراد، وفيه الانفصال والاتصال، والتحيز
والمغايرة، والاتفاق والاختلاف، فما ظنه بالعالم الإلهي الذي لا يقال فيه
كل ولا بعض، ولا ينطق في أمره بلفظ من الألفاظ المسموعة، إلا وتوهم فيه شيء
على خلاف الحقيقة، فلا يعرفه إلا من شاهده؛ ولا تثبت حقيقته إلا عند من
حصل فيه. واما قوله: حتى انخلعت عن غريزة العقلاء، واطرحت حكم المعقول.
فنحن نسلم له ذلك، ونتركه مع عقله وعقلائه، فان العقل الذي يعنيه هو
أمثاله، انما هو القوة الناطقة التي تتصفح أشخاص الموجودات المحسوسة،
وتقتنص منها المعنى الكلي. والعقلاء الذين يعنيهم، هم ينظرون من هذا النظر
والنمط الذي كلامنا فيه فوق هذا كله، فليسد عنه سمعه من لا يعرف سوى
المحسوسات وكلياتها، وليرجع إلى فريقه الذين "بسم الله الرحمن الرحيم"
يعملون ظاهراً من الحياة الدنيا. وهم عن الآخرة هم غافلون. صدق الله
العظيم. فان كنت ممن يقتنع بهذا النوع من التلويح والإشارة إلى ما في
العالم الإلهي، ولا تحمل ألفاظاً من المعاني على ما جرت العادة بها في
تحميلها إياه، فنحن نزيدك شيئاً مما شاهده حي بن يقظان في مقام أولي الصدق
الذي تقدم ذكره، فتقول: انه بعض الاستغراق المحض، والفناء التام، وحقيقة
الوصول، وشاهد للفلك الأعلى، الذي لا جسم له، ورأى ذاتاً بريئة عن المادة،
ليست هي ذات الواحد الحق، ولا هي نفس الفلك، ولا هي غيرها؛ وكأنها صورة
الشمس التي تظهر في مرآة من المرائي الصقيلة، فانها ليست هي الشمس ولا
المرأة ولا غيرهما. وراى لذات ذلك الفلك المفارقة من الكمال والبهاء
والحسن، ما يعظم عن إن يوصف بلسان، ويدق إن يكسى بحرف آو صوت، وراه في غاية
من اللذة والسرور، والغبطة والفرح، بمشاهدة ذات الحق جل جلاله. وشاهد
ايضاً للفلك الذي يليه، وهو فلك الكواكب الثابتة، ذاتاً بريئة عن المادة
أيضاً، ليست هي ذات الواحد الحق، ولا ذات الفلك الأعلى المفارقة، ولا نفسه،
ولا هي غيرها. وكأنها صورة الشمس التي تظهر في المرآة قد انعكست إليها من
مرآة أخرى مقابلة للشمس، ورأى لهذه الذات ايضاً من البهاء والحسن واللذة
مثل ما راى لتلك التي للفلك الأعلى. وشاهد ايضاً للفلك الذي يلي هذا، وهو
فلك زحل ذاتاً مفارقة للمادة ليست هي شيئاً من الدواب التي شاهدها قبله ولا
هي غيرها؛ وكأنها صورة الشمس التي تظهر في مرآة قد انعكست إليها الصورة من
مرآة مقابلة للشمس؛ وراى لهذه الذات ايضاً مثل ما راى آمل قبلها من البهاء
واللذة. ومازال يشاهد لكل فلك ذاتاً مفارقة بريئة عن المادة ليست هي شيئاً
من الذوات التي قبلها ولا هي غيرها وكأنها صورة الشمس التي تنعكس من مرآة
على مرآة، على رتب مرتبة بحسب ترتيب الأفلاك. وشاهد لكل ذات من هذه الذوات
من الحسن والبهاء، واللذة والفرح، ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر
على قلب بشر. إلى أن انتهى إلى عالم الكون والفساد، وهو جميعه حشو فلك
القمر. فرأى له ذاتاً بريئة عن المادة ليست شيئاً من الذوات التي شاهدها
قبلها، ولا هي سواها. ولهذه سبعون ألف وجه، في كل وجه سبعون ألف فم، في كل
فم سبعون ألف لسان، يسبح بها ذات الواحد الحق، ويقدسها ويمجدها، لا يفتر؛
ورأى لهذه الذات، التي توهم فيها الكثرة وليست كثيرة، من الكمال واللذة،
مثل الذي رآه لما قبلها. وكأن هذه الذات صورة الشمس التي تظهر في ماء
مترجرج، وقد انعكست إليها الصورة من آخر المرايا التي انتهى إليها الانعكاس
على الترتيب المتقدم من المرآة الأولى التي قابلت الشمس بعينها. ثم شاهد
لنفسه ذاتاً مفارقة، لو جاز إن تتبعض ذات السبعين ألف وجه، لقلنا انها
بعضها. ولولا إن هذه الذات حدثت بعد إن لم تكن، لقلنا إنها هي! ولولا
اختصاصها ببدنه عند حدوثه، لقلنا إنها لم تحدث! وشاهد في هذه الرتبة
ذواتاً، مثل ذاته، لاجسام كانت ثم اضمحلت، ولاجسام لم تزل معه في الوجود،
وهي من الكثرة في حد بحيث لا تتناهى إن جاز أن يقال لها كثيرة، أو هي كلها
متحدة إن جاز إن يقال لها واحدة. وراى لذاته ولتلك الذوات التي في رتبته من
الحسن والبهاء واللذة غير المتناهية، ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر
على قلب بشر، ولا يصفه الواصفون، ولا يعقله إلا الواصلون العارفون. وشاهد
ذواتاً كثيرة مفارقة للمادة كأنها مرايا صدئة، قد ران عليها الخبث، وهي مع
ذلك مستدبرة للمرايا الصقيلة التي ارتسمت فيها صورة الشمس، ومولية عنها
بوجوهها، وراى لهذه الذوات من القبح والنقص ما لم يقم بباله قط؛ وراها في
ألام لا تنقضي، وحسرات لا تنمحي؛ قد أحاط بها سرادق العذاب، وأحرقتها نار
الحجاب، ونشرت بمناشير بين الانزعاج والانجذاب. وشاهد هنا ذواتاً سوى هذه
المعذبة تلوح ثم تضمحل، وتنعقد ثم تنحل، فتثبت فيها وأنعم النظر إليها،
فرأى هولاً عظيماً وخطباً جسيماً، وخلقاً حثيثاً، وأحكاماً بليغة، وتسوية
ونفخاً وإنشاء ونسخاً. فما هو إلا إن تثبت قليلاً، فعادت إليه حواسه، وتنبه
من حاله تلك التي كانت شبيهة بالغشي، وزلت قدمه عن ذلك المقام، ولاح له
العالم المحسوس، وغاب عنه العالم الإلهي: إذ لم يكن اجتماعهما في حال
واحدة، إذ الأخرى والدنيا كضرتين، إن أرضيت احدهما أسخطت الأخرى، فان قلت
يظهر مما حكيته من هذه المشاهدة، إن الذوات المفارقة إن كانت لجسم دائم
الوجود لا يفسد، كالأفلاك، كانت هي دائمة الوجود؛ وان كانت لجسم يؤول إلى
الفساد كالحيوان الناطق، فسدت هي واضمحلت وتلاشت، حسبما مثلث به في المرايا
الانعكاس، فان الصورة لا ثبات لها إلا ثبات بثبات المرآة، فإذا فسدت
المرآة صح فساد الصورة واضمحلت هي؛ فأقول لك: ما لأسرع ما نسيت العهد، وحلت
عن الربط، ألم نقدم إليك إن مجال العبارة هنا ضيق، وان الألفاظ على كل حال
توهم غير الحقيقة وذلك الذي توهمته إنما أوقعك فيه، إن جعلت المثال
والممثل به على حكم واحد من جميع الوجوه. ولا ينبغي أن يفعل ذلك في أصناف
المخاطبات المعتادة، فكيف ها هنا والشمس ونورها، وصورتها وتشكلها والمرايا
والصور الحاصلة فيها، كلها أمور غير مفارقة للأجسام، ولا قوام لها إلا بها
وفيها؟ فلذلك افتقرت في وجودها إليها وبطلت ببطلانها. واما الذوات الإلهية،
والأرواح الربانية، فانها كلها بريئة عن الأجسام ولواحقها ومنزهة غاية
التنزيه عنها، فلا ارتباط ولا تعلق لها بها، وسواء بالإضافة إليها بطلان
الأجسام أو ثبوتها، ووجودها أو عدمها؛ وانما ارتباطها وتعلقها بذات الواحد
الحق الموجود الواجب الوجود، الذي هو أولها ومبدؤها وسببها وموجدها، وهو
يعطيها الدوام ويمدها بالبقاء والتسرمد؛ ولا حاجة بها إلى الأجسام بل
الأجسام المحتاجة إليها. ولو جاز عدمها لعدمت الأجسام فانها هي مبديها، كما
انه لو جاز إن تعدم ذات الواحد الحق - تعالى وتقدس عن ذلك؛ لا اله إلا هو!
- لعدمت هذه الذوات كلها، ولعدمت الأجسام، ولعدم العالم الحسي بآسره، ولم
يبق موجود، إذ الكل مرتبط بعضه ببعض. والعالم المحسوس وان كان تابعاً
للعالم الإلهي، شبيه الظل له؛ والعالم الإلهي مستغن عنه وبريء منه فانه مع
ذلك قد يستحيل فرض عدمه، إذ هو لا محالة تابع للعالم الإلهي، وانما فساده
إن يبدل، لا إن يعدم بالجملة، وبذلك نطق الكتاب العزيز حيثما وقع هذا
المعنى منه في تسيير الجبال وتسييرها كالعهن والناس كالفراش. وتكوير الشمس
والقمر، وتفجيرالبحار يوم تبدل الارض غير الأرض والسموات. فهذا القدر هو
الذي امكنني الآن أن أشير إليك به فيما شاهده حي بن يقظان في ذلك المقام
الكريم فلا تلتمس الزيادة عليه من جهة الألفاظ فان ذلك كالمعتذر. واما تمام
خبره - فسأتلوه عليك إن شاء الله تعالى: وهو انه لما عاد إلى العالم
المحسوس، وذلك بعد جولا نه حيث جال، سئم تكاليف الحياة الدنيا، واشتد شوقه
إلى الحياة الدنيا، واشتد شوقه إلى الحياة القصوى، فجعل يطلب العود إلى ذلك
المقام بالنحو الذي طلبه أولاً حتى وصل إليه بأيسر من السعي الذي وصل به
أولاً ودام فيه ثانياً مدة أطول من الأولى. ثم عاد إلى عالم الحس. ثم تكلف
الوصول إلى مقامه بعد ذلك فكان ايسر عليه من الأولى والثانية وكان دوامه
أطول. وما زال الوصول إلى ذلك المقام الكريم يزيد عليه سهولة، والدوام يزيد
فيه طولاً مدة بعد مدة، حتى صار يصل إليه متى شاء، ولا ينفصل عنه إلا متى
شاء؛ فكان يلازم مقامه ذلك ولا ينثني عنه إلا لضرورة بدنه التي كان قد
قللها، حتى كان لا يوجد اقل منها. وهو في كل ذلك كله يريد إن يريحه الله عز
وجل من كل بدنه الذي يدعوه إلى مفارقة مقامه ذلك، فيتخلص إلى لذته تخلصاً
دائماً، ويبرأ عما يجده من الألم عند الأعراض عن مقامه ذلك إلى ضرورة
البدن. وبقي على حالته تلك حتى أناف على سبعة أسابيع من منشئه وذلك خمسون
عاماً. وحينئذ اتفقت له صحبة أسال وكان من قصته معه ما يأتي ذكره بعد هذا
إن شاء الله تعالى. ذكروا: إن جزيرة قريبة من الجزيرة التي ولد بها حي بن
يقظان على أحد القولين المختلفين على صفة مبدئه، انتقلت إليه ملة من الملل
الصحيحة الماخوذه على بعض الأنبياء المتقدمين، صلوات الله عليهم. وكانت ملة
محاكية لجميع الموجودات الحقيقية بالأمثال المضروبة التي خيالات تلك
الأشياء، وتثبت رسومها في النفوس، حسبما جرت به العادة في مخاطبة الجمهور؛
فما زالت تلك الملة تنتشر بتلك الجزيرة وتقوى وتظهر، حتى قام بها ملكها
وحمل الناس على التزامها. وكان قد نشأ بها فتيان من أهل الفضل والخير، يسمى
أحدهما أسال والآخر سلامان فتلقيا هذه الملة وقبلاها احسن قبول، واخذ على
أنفسهما على بالتزام جميع شرائعها والموظبة على جميع أعمالها، واصطحبا على
ذلك. وكانا يتفقهان في بعض الأوقات فيما ورد من ألفاظ تلك الشريعة في صفة
الله عز وجل وملائكته، وصفات الميعاد والثواب والعقاب. فأما أسال فكان أشد
غوصاً على الباطن، وأكثر عثوراً على المعاني الروحانية واطمع في التأويل.
واما سلامان صاحبه فكان أكثر احتفاظاً بالظاهر، وأشد بعداً عن التأويل،
وأوقف عن التصرف والتأمل؛ وكلاهما مجد في الأعمال الظاهرة، ومحاسبة النفس،
ومجاهدة الهوى. وكان في تلك الشريعة أقوال تحمل عن العزلة والانفراد، وتدل
على إن الفوز والنجاة فيهما؛ واقوال أخر تحمل على المعاشرة وملازمة
الجماعة. فتعلق أسال بطلب العزلة، ورجح القول فيها لما كان في طباعه من
دوام الفكرة، وملازمة العبرة، والغوص على المعاني، وأكثر ما كان يتأتى له
أمله من ذلك بالانفراد. وتعلق سلامان بملازمة الجماعة، ورجح القول فيها لما
كان في طباعه من الجبن عن الفكرة والتصرف. فكانت ملازمته الجماعة عنده مما
يدرأ الوسواس، ويزيل الظنون المعترضة ويعيد من همزات الشياطين. وكان
اختلافهما في هذا الرأي سبب افتراقهما. وكان أسال قد سمع عن الجزيرة التي
ذكر أن حي بن يقظان تكون بها وعرف ما بها من الخصب والمرافق والهواء
المعتدل، وان الانفراد بها يتأتى لملتمسه، فأجمع إن يرتحل إليها ويعتزل
الناس بها بقية عمره. فجمع ما كان له من المال، واشترى ببعضه مركباً تحمله
إلى تلك الجزيرة، وفرق باقيه على المساكين، وودع صاحبه سلامان وركب متن
البحر؛ فحمله الملاحون إلى تلك الجزيرة؛ ووضعوه بساحلها؛ وانفصلوا عنها.
فبقي أسال بتلك الجزيرة يعبد الله عز وجل؛ ويعظمه ويقدسه؛ ويفكر في اسمائه
الحسنى وصفاته العليا؛ فلا ينقطع خاطره؛ ولا تتكدر فكرته. واذا احتاج إلى
غذاء تناول من ثمرات تلك الجزيرة وصيدها ما يسد بها جوعته. وأقام على تلك
الحال مدة وهو في أتم غبطة وأعظم أنس بمناجاة ربه. وكان كل يوم يشاهد من
ألطافه ومزايا تحفة وتيسره عليه في مطلبه وغذائه ما يثبت يقينه ويقر عينه.
وكان في تلك المدة حي بن يقظان شديد الاستغراق في مقاماته الكريمة؛ فكان لا
يبرح عن مغارته إلا مرة في الاسبوع لتناول ما سنح من الغذاء، فلذلك لم
يعثر عليه أسال لأول وهلة، بل كان يتطوف بأكناف تلك الجزيرة ويسبح في
أرجائها، فلا يرى أنسياً ولا يشاهد أثراً فيزيد بذلك أنسه وتنبسط نفسه لما
كان قد عزم عليه من التناهي في طلب العزلة والانفراد. إلى إن اتفق في بعض
تلك الأوقات إن خرج حي بن يقظان لالتماس غذائه وأسال قد ألم بتلك الجهة،
فوقع بصر كل منهما على الآخر. فإما أسال فلم يشك أنه من العباد المنقطعين،
وصل تلك الجزيرة لطلب العزلة عن الناس كما وصل هو إليها. فخشي إن هو تعرض
له وتعرف به إن يكون سبباً في فساد حاله وعائقاً بينه وبين أمله. واما حي
بن يقظان فلم يدر ما هو، لانه لم يره على صورة شيء من الحيوانات التي كان
قد عاينها قبل ذلك. وكان عليه مدرعة سوداء من الشعر والصوف، فظن إنها لباس
طبيعي. فوقف يتعجب منه ملياً. وولى أسال هارباً منه خيفة أن يشغله عن حاله،
فاقتفى حي بن يقظان أثره لما كان في طباعه من البحث عن الحقائق. فلما رآه
يشتد في الهرب. خنس عنه وتوارى له، حتى ظن أسال انه قد انصرف عنه وتباعد من
تلك الجهة. فشرع أسال في الصلاة والقراءة، والدعاء والبكاء، والتضرع
والتواجد، حتى شغله ذلك عن كل شيء. فجعل حي بن يقظان يتقرب منه قليلاً
قليلاً، وأسال لا يشعر به حتى دنا منه بحيث يسمع قراءته وتسبيحه، ويشاهد
خضوعه وبكائه. فسمع صوتاً حسناً وحروف منظمة، لم يعهد مثلها من شيء من
أصناف الحيوان. ونظر إلى أشكاله وتخطيطه فرآه على صورته، وتبين له أن
المدرعة التي عليه ليست جلداً طبيعياً، وانما هي لباس متخذ مثل لباسه هو،
ولما رأى حسن خشوعه وتضرعه وبكائه لم يشك في انه من الذوات العارفة بالحق؛
فتشوق إليه واراد إن يرى ما عنده، وما الذي أوجب بكاءه وتضرعه؛ فزاد في
الدنو منه حتى أحس به أسال؛ فاشتد في العدو، واشتد حي بن يقظان في أثره حتى
التحق به - لما كان أعطاه الله من القوة والبسطة في العلم والجسم -
فالتزمه وقبض عليه؛ ولم يمكنه من البراح. فلما نظر إليه أسال وهو مكتس
بجلود الحيوان ذوات الاوبار؛ وشعره قد طال حتى جلل كثيراً منه، ورأى ما
عنده من سرعة العدو وقوة البطش، فرق منه فرقاً شديداً، وجعل يستعطفه ويرغب
إليه بكلام لا يفهمه حي بن يقظان ولا يدري ما هو، غير أنه يميز فيه شمائل
الجزع. فكان يؤنسه بأصوات كان قد تعلمها من الحيوانات، ويجر يده على رأسه،
ويمسح أعطافه. ويتملق إليه، ويظهر البشر والفرح به. حتى سكن جأش أسال وعلم
أنه لا يريد به سوءاً. كان أسال قديماً لمحبته في علم التأويل. قد تعلم
أكثر الألسن، ومهر فيها. فجعل يكلم حي بن يقظان ويسائله عن شأنه بكل لسان
يعلمه ويعالج أفهامه فلا يستطيع، وحي بن يقظان في ذلك كله يتعجب مما يسمع
ولا يدري ما هو. غير أنه يظهر له البشر والقبول. فاستغرب كل واحد منهما أمر
صاحبه. وكان عند أسال من زاد كان قد اصطحبه من الجزيرة المعمورة، فقربه
إلى حي بن يقظان فلم يدر ما هو، لانه لم يكن شاهده قبل ذلك. فأكل منه أسال
وأشار إليه ليأكل ففكر حي بن يقظان فيما كان ألزم نفسه من الشروط لتناول
الغذاء، ولم يدر اصل ذلك الشيء الذي قدم له ما هو، وهل يجوز له تناوله أم
لا! فامتنع عن الآكل. ولم يزل أسال يرغب إليه ويستعطفه. وقد كان اولع به حي
بن يقظان فخشي إن دام على امتناعه إن يوحشه، فاقدم على ذلك الزاد وأكل
منه. فلما ذاقه واستطابه بدا له سوء ما صنع من نقض عهوده في شرط غذاء، وندم
على فعله، وأراد الانفصال عن أسال والإقبال على شأنه من طلب الرجوع إلى
مقامه الكريم، فلما تتأت له المشاهدة بسرعة. فرأى أن يقيم مع أسال في عالم
الحس حتى يقف على حقيقة شأنه، ولا يبقي في نفسه هو نزوع إليه، وينصرف بعد
ذلك إلى مقامه دون إن يشغله شاغل. فالتزم صحبة أسال ولما رأى أسال أيضاً
انه لا يتكلم، آمن من غلوائه على دينه، ورجا أن يعلمه الكلام والعلم
والدين، فيكون له بذلك أعظم أجر وزلفى عند الله. فشرع أسال في تعليمه
الكلام أولاً بأن كان يشير له إلى أعيان الموجودات وينطق بأسمائها ويكرر
ذلك عليه ويحمله على النطق، فينطق بها مقترناً بالاشارة، حتى علمه الأسماء
كلها، ودرجه قليلاً قليلاً حتى تكلم في أقرب مدة. فجعل أسال يسأله عن شأنه
ومن أين صار إلى تلك الجزيرة، فأعلمه حي بن يقظان انه لا يدري لنفسه ابتداء
ولا أباً ولا أماً أكثر من الظبية التي ربته، ووصف له شأنه كله وكيف ترقى
بالمعرفة، حتى انتهى إلى درجة الوصول.

فلما سمع أسال منه وصف تلك الحقائق والذوات المفارقة لعالم الحس العارفة
بذات الحق عز وجل، ووصفه ذلك الحق تعالى وجل بأوصافه الحسنى، ووصف له ما
أمكنه وصفه مما شاهده عند الوصول من لذات الواصلين وألام المحجوبين، لم يشك
أسال في أن جميع الأشياء التي وردت في شريعته من أمر الله عز وجل،
وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وجنته وناره، هي أمثلة هذه التي
شاهدها حي بن يقظان؛ فانفتح بصر قلبه وانقدحت نار خطره وتطابق عنده المعقول
والمنقول، وقربت عليه طرق التأويل، ولم يبق عليه مشكل في الشرع إلا تبين
له، ولا مغلق إلا انفتح، ولا غامض إلا اتضح، وصار من أولى الألباب. وعند
ذلك نظر إلى حي بن يقظان بعين التعظيم والتوقير، وتحقق عنده أنه من أولياء
الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. فالتزم خدمته والاقتداء به بإشارته
فيما تعارض عنده من الأعمال الشرعية التي قد تعلمها في ملته. وجعل حي بن
يقظان يستفصحه عن أمره وشأنه، فجعل أسال يصف له شأن جزيرته وما فيها من
العالم، وكيف كانت سيرهم قبل وصول الملة اليهم.

وكيف هي الآن بعد وصولها إليهم، وصف له جميع ما ورد في الشريعة من وصف
العالم الإلهي، والجنة والنار، والبعث والنشور، والحشر والحساب، والميزان
والصراط. ففهم حي بن يقظان ذلك كله ولم ير فيه شيء على خلاف ما شاهده في
مقامه الكريم. فعلم أن الذي وصف ذلك وجاء به محق في وصفه، صادق في قوله،
ورسول من عند ربه؛ فأمن به وصدقه وشهد برسالته.

ثم جاء يسأله عما جاء به من الفرائض، ووضعه من العبادات؛ فوصف له الصلاة
والزكاة، والصيام والحج، وما أشبهها من الأعمال الظاهرة؛ فتلقى ذلك
والتزمه، وأخذ نفسه بأدائه امتثالاً للآمر الذي صح عنده صدق قوله.

إلا انه بقي في نفسه أمران كان يتعجب منهما ولا يدري وجه الحكمة فيهما:
أحدهما - لما ضرب هذا الرسول الأمثال للناس في أكثر ما وصفه من أمر العالم
الإلهي، وأضرب عن المكاشفة حتى وقع الناس في أمر عظيم من التجسيم، واعتقاد
أشياء في ذات الحق هو منزه عنها وبريء منها؟ وكذلك في أمر الثواب والعقاب!
والآمر الآخر - لم اقتصر على هذه الفرائض ووظائف العبادات وأباح الاقتناء
للأموال والتوسع في المأكل، حتى بفرغ الناس بالاشتغال بالباطل، والأعراض عن
الحق؟ وكان رأيه هو لا يتناول أحد شيئاً إلا ما يقيم به من الرمق؛ واما
الأموال فلم تكن لها عنده معنى.

وكان يرى ما في الشرع من الأحكام في أمر الأموال: كالزكاة وتشعبها، والبيوع
والربا والحدود والعقوبات، فكان يستغرب هذا كله ويراه تطويلاً، ويقول: إن
الناس لو فهموا الآمر على حقيقته لاعرضوا عن هذه البواطل، وأقبلو على الحق،
واستغنوا عن هذا كله، ولم يكن لاحد اختصاص بمال يسأل عن زكاته، أو تقطع
الأيدي على سرقته، أو تذهب النفوس على أخذه مجاهرة.

وكان الذي أوقعه في ذلك ظنه، أن الناس كلهم ذوو فطر فائقة، وأذهان ثاقبة،
ونفوس عازمة، ولم يكن يدري ما هم عليه من البلادة والنقص، وسوء الرأي وضعف
العزم، وأنهم كالأنعام بل هم أضل سبيلاً.

فلما اشتد إشفاقه على الناس، وطمع أن تكون نجاتهم على يديه، حدثت له النية
في الوصول إليهم، وإيضاح الحق لديهم، وتبييه لهم ففاوض في ذلك صاحبه أسال
وسأله: هل تمكنه حيلة في الوصول اليهم؟ فأعلمه بما هم فيه من نقص الفطرة
والأعراض عن آمر الله فلم يتأت له فهم ذلك، وبقي في نفسه تعلق بما كان قد
أمله.

وطمع أسال أيضاً أن يهدي الله على يديه طائفة من
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://albahito.alafdal.net
 
حي بن يقظان
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
مــنــتـديات البــــــاحــث الأفـضــــــل  :: الباحث الأدبـــــــي واللســــاني :: . :: .-
انتقل الى: